زيارة ترامب للعراق تثير المخاوف من تسييس الجيش

قضايا عربية ودولية 2019/01/07
...

بول سوني وفيليب روكر
ترجمة: انيس الصفار  
انتهت زيارة الرئيس ترامب المفاجئة للقوات الاميركية في العراق والمانيا ومرت عليها أيام ولم تهدأ الاسئلة التي حامت حول ما اذا كان الرئيس قد عرض للتهديد الحيادية السياسية للجيش الاميركي من خلال توجيهه هجمات ذات طابع حزبي على خصومه وتوقيعه للجنود على قبعات حمر تحمل شعار “لنجعل اميركا عظيمة من جديد”. تصرفات الرئيس، الخارجة عن مسار رؤساء سبقوه، تبرز قوّة الصراع الذي يخوضه القادة في البنتاغون وهم يحاولون الامساك بزمام جيش اقسم ان ينأى بنفسه عن السياسة في زمن تعيش فيه السياسة الاميركية مرحلة تتسم بفرط التحزب السياسي، وخصوصاً تحت امرة قائد عام لا يهمه ان يخرج على الاعراف المتبعة الثابتة.
هذا الصراع يمكن ان يشتد مع بدء الحملة الرئاسية المقبلة للعام 2020 وخروج وزير الدفاع “جيم ماتيس” الذي حاول قبل استقالته مؤخراً، وفشل احياناً، ان يمنع الجيش من التحول الى بيدق في لعبة السياسات القبلية للأمة
 الاميركية.
الى جانب توقيع ترامب على القبعات ذات شعار “لنجعل اميركا عظيمة من جديد” ركز منتقدوه ايضاً على محتوى خطاباته التي القاها خلال تلك الرحلة. يقول المنتقدون ان ترامب، من خلال تعليقاته السياسية والملاحظات المكشوفة التي كان يلقيها بلا مواراة امام جنود يرتدون الزي العسكري في حماس ظاهر للقائهم بقائدهم، قد جازف بجعل الجمهور الاميركي يرى وكأن الجيش مجرد قاعدة من المؤيدين
 الحزبيين. 
 
تجربة فيتنام
هذه الصورة قد تخدم قاعدته هو ولكنها تهدد بتقويض الثقة التي اودعها الاميركيون جميعاً في قواتهم المسلحة، ويرى “شارلز بلانشارد”، الذي شغل منصب مستشار عام لدى الجيش والقوة الجوية خلال ادارتي كلنتون واوباما، ان تحويل الزيارة الى تجمع سياسي سيجعل الناس يرون جنوداً متحمسين يصفقون ويهتفون برسالة
 حزبية.
يقول بلانشارد، ويؤيده خبراء آخرون، ان المجازفة تتمثل بتزعزع ثقة الجماهير بالجيش الذي عبر 74 بالمئة من الاميركيين عن ثقتهم به في استطلاع “غالوب” للعام 2018، الامر الذي يجعله المؤسسة الحكومية الاعلى كسباً للثقة بشوط بعيد في اعين الاميركيين. احد الاسباب التي مكنت الجيش من كسب هذا المستوى العالي من الثقة هو نأيه عن السياسة وطمأنته الاميركيين الى أن من يرتدون البزة العسكرية سوف ينفذون الاوامر التي توجه اليهم قانونياً من اية قيادة مدنية منتخبة في البلد دون ما انحياز.
يقول المؤرخ “روبرت داليك” ان الزيارة التي يقوم بها رئيس ما للقوات خارج البلد لا بد ان تنطوي على شيء من السياسة، ولكن ترامب تجاوز الحدود. فبالعودة للتاريخ خلال لم يقم الرئيس الأميركي الراحل “لندون جونسون” مثلاً بمهاجمة الجمهوريين حين زار القوات الاميركية في فييتنام ولا هاجم منتقديه من الديمقراطيين، كما يقول داليك. أما ترامب فإنه يلوي القواعد ويخرق الاعراف لكي يبدو مختلفاً ومتميزاً.
السبب الذي يبرر هذه الاعراف، كما تقول “روزا بروكس” استاذة القانون وخبيرة الامن القومي في جامعة جورجتاون، هو ضمان عدم استغلال هذه المؤسسة، التي اودع عندها الشعب الاميركي قدرات هائلة، لغايات حزبية.
تقول بروكس: “لقد حرصنا على هذا المبدأ لأننا لا نريد ان نتحول الى احدى جمهوريات الموز.” منبهة الى ان قلقها الحقيقي لا ينحصر بحفنة من الجنود التقوا برئيسهم فغاب عنهم ما تدربوا عليه بل لأن ترامب “استغل خطابه للكوادر العسكرية كما لو كان في مناسبة حزبية.”
 
انتقاد للديمقراطيين
بدأ ترامب رحلته كأي قائد عام للقوات من قبله يمضي اجازته في زيارة لإحدى مناطق الصراع. انطلق بطائرته النفاثة الى العراق دون اشعار سابق تصحبه السيدة الاولى “ميلانيا ترامب” وقد خطط لتقديم عرض دعم مثير تعبيراً عن الشكر للعسكر على الخدمة التي يقدمونها.
خلال زيارته للعراق حيا الرئيس جنوده وشكرهم على تضحياتهم وتمنى لهم عيد ميلاد مجيد، ولكنه حرص على تلبس مظهر من يحضر تجمهراً او حدثاً
 سياسياً.
على المنصة في قاعدة الاسد الجوية راح ترامب يتحدث ومن ورائه شبكة تمويه وعلم اميركي عملاق وهو يرتدي السترة العسكرية، وخلال تعبيره عن التقدير والامتنان راح يناوب في الحديث بين المواضيع السياسية والتأملات في السياسة الخارجية.
خلال ملاحظاته التي القاها هاجم ترامب بالاسم زعيمة الاقلية في مجلس النواب “نانسي بيلوسي” قائلاً ان السبيل الوحيد للحصول على دعم الديمقراطيين في كاليفورنيا للجدار على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك لن يكون الا بالتخلي عنه. قال للجنود ان الديمقراطيين يعارضون وجود حدود منيعة كما يعارضون الانفاق على الدفاع خدمة للجيش. قبل ذلك، وفي مؤتمر اخباري في القاعدة، قال ان “مكمن المشكلة القائمة مع الديمقراطيين هو ان نانسي بيلوسي هي التي تتولى قيادة
 الحملة”.
في خروج آخر على اللياقة التقليدية المعهودة شكك ترامب في رجاحة اي قرار تتخذه سلسلة القيادة التي تخضع لها القوات التي التقى بها في العراق عندما قال انه طالب بالانسحاب من سوريا ولكن الطلبات انهالت عليه ممن اسماهم “جنرالاتنا” للبقاء ستة اشهر أخرى. اخيراً ضاق صدره، كما المح، وقال لهم: “نحن نعالج الامر بطريقة مختلفة.” موحياً بأن الضباط كانوا على
 خطأ.
خلال زيارته لقاعة الطعام في القاعدة راح يوقع بإمضائه على قبعات تحمل شعار “لنجعل أميركا عظيمة من جديد” كان افراد القوة قد احضروها معهم، كما امضى على رقعة لأحد عناصر القوة مكتوب عليها “ترامب 2020”.
 
أين الخرق
في قاعدة “رامشتاين” الجوية في المانيا، حيث توقف الرئيس وهو في طريق العودة الى الوطن، اظهرت الصور التي بثها مراسل وكالة “بلومبرغ” للانباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي احد الجنود بالبزة العسكرية وهو يمسك القبعات الحمر بينما حمل عسكري آخر راية حملة ترامب الانتخابية.  
امتنع البنتاغون عن ايضاح ما اذا كانت هذه التصرفات ترقى الى حد اعتبارها خرقاً للقواعد العسكرية  التي تفرض على الجنود العاملين في الخدمة ان يبتعدوا عن السياسة واحيل تساؤلنا الى الوحدات المحلية. قالت القيادة الجوية في اوروبا في تصريح على مجلة “ستارز أند سترايبس” ان الجنود الذين احضروا معهم قبعات “لنجعل اميركا عظيمة” لم يخرقوا القواعد إذ ليست هنالك من قاعدة تحظر على العاملين في سلاح الجو ان يأتوا بأشيائهم الشخصية الى الرئيس ليطلبوا امضاءه
 عليها.
القواعد التي نشير اليها منصوص عليها في توجيه وزارة الدفاع  المرقم 1344/10، كما يشدد عليها عند تدريب جنود لأداء الخدمة في الجيش الاميركي. يحظر التوجيه المذكور، من بين امور عدة، على الافراد الذين يؤدون الخدمة الفعلية أن يشاركوا في التجمعات السياسية او يفصحوا عن اية اشارات او دلالات مظهرية تتضمن التأييد لمرشح معين، او حتى تعليق علامات او ملصقات او رايات على سياراتهم الخاصة او منازلهم فيها اشارات او رموز سياسية
 حزبية.
قال البنتاغون في تصريح له ان التوجيه يرسم بوضوح الحدود المأذون بها والنشاطات المحظورة فيما يتعلق بالحملات السياسية.
لم تكن الزيارة للعراق والمانيا المرة الاولى التي يتعرض فيها ترامب للانتقاد بسبب تسييسه للجيش الاميركي. ففي الايام الاولى لتوليه منصبه وقع ترامب في “قاعة الابطال” في البنتاغون حظراً للسفر على الاشخاص الذين ينتمون الى بلدان ذات اغلبية مسلمة. اختيار هذا المكان بالذات جعل الامر يبدو وكأن ذلك القرار السياسي يحمل بين طياته موافقة من الجهات العسكرية.
في السنة الماضية، في حفل ادخال السفينة “يو أس أس جيرالد فورد” الى الخدمة، طلب ترامب من الحاضرين، وكان بينهم ضباط يرتدون زي القوة البحرية، ان يطالبوا الكونغرس بزيادة الانفاق الدفاعي ودعم سياسته في الرعاية الصحية.
 
العامل الانتخابي
منذ حملته الانتخابية كان ترامب يرى في الجيش، من اعلى رتبة فيه الى اوطأ رتبة، قاعدة له. ففي شباط 2017 خلال زيارته لقاعدة “ماكديل” الجوية في تامبا قال: “لقد كان اداؤنا في الانتخابات رائعاً، اليس كذلك؟ وقد رأيت تلك الارقام .. انتم قبلتم بي وأنا قبلت بكم.”
يصف النقاد وضباط الجيش المتقاعدون قرار الرئيس بنشر آلاف الجنود الذين يؤدون الخدمة الفعلية الى الحدود مع المكسيك قبل الانتخابات النصفية بأنه جسارة سياسية، رغم وصف ماتيس الحركة بأنها تدريب جيد للجنود.
يبعث كبار ضباط الجيش بشكل منتظم برقيات يؤكدون فيها على ضرورة الالتزام بالحياد السياسي، وهم يبدأون بث هذه الرسالة في العادة مع اقتراب موسم الانتخابات. ففي منتصف العام 2016 مثلاً كتب رئيس قيادة الاركان المشتركة، الجنرال “جوزيف دانفورد”، مقالة في مجلة “القوات المشتركة” التي تصدر كل ثلاثة اشهر موضحاً بأن القوات الاميركية تمتلك حق الانتخاب والمشاركة في الشأن السياسي، ولكن عليها رغم ذلك الحذر من السماح بتسييس الجيش، كما ينبغي حماية المهنية العسكرية وحيادها سياسياً.”
يقول الستراتيجيون السياسيون ان الرئيس ترامب قد ثلم قراره الايجابي بزيارة القوات المرابطة في العراق حين تلبس المظهر السياسي وحمله معه الى
 القاعدة.
يقول “ريك تايلر” وهو ستراتيجي جمهوري: “من المهم لمعنويات الجنود ان يروا قائدهم مستعداً للخروج بنفسه ورؤية كل شيء بعينيه. بيد انه عاد فصغّر نفسه ومنصبه حين استغل المناسبة كفرصة للكسب السياسي.”
يمضي تايلر مبيناً ان لدى ترامب ميزة على منافسيه السياسيين وهي انه القائد العام المحاط بمهابة المنصب. كل ما عليه، كما يقول تايلر، هو ان يؤدي دوره كما يجب وعندئذ سيفوز بالمكاسب السياسية دون حاجة لتسييس الجيش.”