السارد المبئر في «مزامير المدينة»

ثقافة 2020/09/03
...

 يوسف عبود جويعد
ضمن الأجزاء الثلاثة، رواية (الصورة الثالثة) ورواية (مزامير المدينة) ورواية (فضاء ضيق) للروائي علي لفتة سعيد التي يستعرض فيها حركة الحياة والمتغيرات التي حدثت بعد التغيير، وسقوط النظام المباد عام 2003، وتلك النصوص السردية ثلاثية متصلة تابعنا من خلالها مسيرة صعبة وشاقة وقاسية لما آلت اليه الحياة 
خلال تلك الحقبة من بداية التغيير وحتى اواخر عام 2019، وما حدث فيها على واقع مسيرة الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية في البلد، وما هي المؤثرات التي تركت في نفوس ابناء البلد، يأتي ذلك من خلال بطل تلك النصوص السردية (محسن)، الذي تنسلخ منه الذات الساردة، لتقدم لنا الأحداث بأسلوب الفعل المضارع، ويلعب السارد دوراً كبيراً في دائرة الأحداث، كونه لا يكتفي بتحريك العملية السردية للأحداث مجردة دون تدخلات كبيرة وواسعة تتدخل ضمن عملية بناء النص والحس الدرامي المطلوب لتماسك مبنى السرد، بل انه يقوم مقام السارد المبئر، وسوف أختار رواية (مزامير المدينة) وهي الجزء الثاني ضمن تلك الثلاثية كما ذكرت، لأقوم بتحليلها ومراجعتها نقديا، إذ سنكون مع البنية المكانية لهذا النص الذي أولاه الروائي اهتماماً خاصاً، وسنكون مع عملية تبئير واسعة ومنظمة لهذه البنية التي تعد واحدة من الادوات الرئيسة في فن صناعة الرواية، من دون الاخلال بباقي العناصر والادوات التي تدخل في صناعة النص الروائي، ومن خلال بطل النص محسن الذي انسلخت منه الذات الساردة لتقدم لنا المسيرة السردية بأسلوب عميق نابع من كل المؤثرات الحياتية المؤلمة التي تنعكس على اللغة السردية لهذا النص، ومن الطبيعي سوف نتعرف على بطل هذا النص، الذي قدم من الناصرية ليعيش في فضاء مكان الاحداث، محافظة النجف وهو مثقف واديب وروائي وقاص ينشر أعماله في الصحف، إلا أن ضنك العيش، وعدم الاهتمام بالأديب، وصعوبة أن يعيش الاديب على مورد مالي يأتيه من تلك الكتابات لأن أغلب الصحف والمجلات تقدم لها تلك الأعمال من دون مقابل، وهو شخصية الروائي ذاتها لكنه استطاع ان ينقلها بالشخصية الرئيسة والمركزية ليتخلص من السيرة الذاتية والادبية ويكون البناء الفني اكثر نضجاً، وهنا يضطر محسن أن يعمل حفاراً للقبور من أجل الحصول على لقمة العيش وتسديد نفقات ايجار البيت والأمور الأخرى التي تتطلبها عملية البقاء حياً:
(تنتهي من الاستغراق وتغلق كتابك، حالما ناداك علي الدفان أن انهض واترك القراءة، ثمة جنازةٌ قادمة، سياراتٌ كثيرة سودٌ، كسرب نسور عبر الطرقات بخطوط مستقيمة ليصل الى مبتغاه المقبرة. سربٌ متشابهٌ في مقدمته إلا من السيارة التي تحمل نعشاً. ورحت بدأب تتابع الحركة وفي بلعومك غصةٌ، إن الحرب جاءت بضيف جديد الى اللحود) ص27. 
تخللت النص فصول معنونة وهي اختزال عميق لثيمة الفصل، ونتابع تفاصيل كبيرة وواسعة لبنية المكان، ماضيه، حاضره، تراثه، حضارته، الازقة، الشوارع، والمعالم والرموز المهمة فيه، وأهمها مرقد الامام علي بن ابي طالب، كما سنتابع مسارات سردية تتعلق بواقع الحياة المكانية، منها الجانب الديني بين الوعي والجهل، والجانب السياسي، والجانب الاجتماعي، وعلاقة الصداقة الحميمة بين الأصدقاء مجتبى ابن الاطلساني رجل الدين المعمم الذي يملك الكثير، من عمارات ومقاهٍ وفنادق وأراضٍ، ومجتبى ابنه يروم الحصول على حقه من ابيه، ويعيش حالة نفسية منكسرة، وكذلك يوسف ومحمود وجمعة، وكذلك سنمر على احداث سوف نتابعها ايضاً في الجزء الثالث من تلك الثلاثية، أي رواية (فضاء ضيق) منها علاقة الحب الروحية والجسدية بين محسن وسلوى، وكذلك سنتابع الحادثة المهمة التي تركت تأثيراً ملموساً في حياة بطل النص محسن، وهي الفتاة حمدية التي اكتشفها تمارس البغاء مع خل لها في أحد القبور:
(كان المعنى الذي دار في رأسك هو القبر ربما بإمكانه أن يمنح الحياة أيضاً ويكون ملاذاً وملجأ للأحياء الذي رمتهم الدنيا في متاهات الفقر. تخيل يا محسن ألا مكان لممارسة الحب لمثل هؤلاء إلا القبر والمكان إلا مقبرة) ص217 
وهكذا نتابع دورة الاحداث، وننتظر عنصر المفاجأة الذي تابعناه منذ بداية دخولنا الى عالم هذا النص، وهي أن يرافق محسن مجتبى ليتحدث مع والده من اجل الحصول على شيء من هذا الإرث، إلا أن الاطلساني يطرد ابنه وينعته بالخمار. أن ثلاثية الروائي علي لفته سعيد، تدوين صادق ودقيق لوقائع الحياة التي عشناها في مرحلة التغيير المشؤوم سيئ الصيت، وهي وثائق مهمة نحتاجها للرجوع اليها عندما نريد ان نعرف مؤثرات هذا التغيير. من إصدارات الفؤاد للنشر والتوزيع لعام 2018.