الشهادة منذ الولادة

آراء 2020/09/03
...

د. نازك بدير*
أشجار "وسط بيروت" لن تبدّل زيّها مع مطلع (أيلول) ولن تتلوّن بالأصفر والبرتقاليّ والأحمر، أوراقها إشبينة عرائس بفساتين بيضاء، شاءت العناية الإلهية ألّا تتحوّل أكفانًا وسط الخراب. تخجل عيون الشهداء، وقد كانت شّاهدة على احتضارهم، طارت نحوهم، ضمّدت جراحاتهم، غطّت جثامينهم، حملت رائحتهم إلى أمهّات حائراتٍ بين 
الرّكام.
الورقة الصّفراء الذّابلة لم تمنع رصاصة طائشة من اختراق خوذة الكابتن "محمد عطوي" وأن تستقرّ في رأسه مهدّدة حياة أحد ألمع نجوم كرة القدم في لبنان. ألا يكفي بيروت صراخ أمهاتها الثكالى؟ مع كلّ تشييع لضحية من ضحايا المرفأ، ثمّة ضحية جديدة أو أكثر ....
إلى متى الاستهتار بأرواح الأبرياء؟ إلى متى ونحن نزفّ شهيداً بعد شهيد، كأنَّه يحملُ على أكتافه الشهادة منذ الولادة، ذنبه الوحيد أنّه وُلِد في هذه البقعة من الشّرق؟ ليس محمد عطوي وحده بين الحياة والموت، كلّنا في هذا الوطن نعيش بينهما، حقد وتعصّب وجهل، رصاص طائش، تفجيرات، إرهاب داعشيّ، عدوان إسرائيليّ، وأنت تعاين المشهد في لبنان، قد تجد أنّه لا يختلف عمّا يحصل في بغداد أو البصرة والمدن العراقيّة الأخرى، وحده الموت يتجوّل بيننا بحريّة مطلقة أينما كنّا، بات الموت يتنقّل مصطاداً الأرواح؛ تجييش واحتقان طائفيّ، وكأنّ ثمّة ما يحرف المواطنين عن القضايا الأساسيّة، ولاسيّما استعادة الأموال المنهوبة ومحاربة الفساد، فإذا بهم ينزلقون في خندق الاحتراب الدّاخليّ، والصّراعات المذهبيّة، ثمّة ما يشبه الانفصام بين رجال السّياسة والمواطنين، الاهتزاز في الدّاخل وليد هذه الفجوة العميقة بين القشرة الهشّة التي تتآكل نتيجة عدم التلاؤم بينها، وبين الصّفائح الصّلبة التي تجثم فوقها، وتمعن في تهشيم جزئيّاتها، ذخيرتها ما في الطبقات الجوفيّة من نار حروب، في ذكرى إعلان مئويّة دولة لبنان، أخفقْنا في تحقيق الاستقلال عن المصالح الشّخصيّة، عجِزْنا عن الارتقاء نحو تحقيق السيادة ، لا تزال تنحرنا المشكلات، لا على مستوى الشّارع فحسب، وإنّما على المستوى البنيوي للدّولة، ولعلّ بقعة الزيت التي تتّسع على السّطح، تهدّد باجتياح المجتمع بأكمله، ما هي إلّا انعكاسٌ لتفكّك البنية العميقة لهيكليّة الدّولة المأزومة في مؤسّساتها، وتركيبتها، وسياساتها الدّاخليّة والخارجيّة على حدّ سواء.