سلطان الأبديَّة

ثقافة 2020/09/04
...

ياسين طه حافظ
 
يبدو أن أكثر الناس لهم ميل لأفكار الماضي. هي لا تفارقهم وقد انتقلوا من زمن لزمن، واختلفت الثقافات وتغيرت ظروف العمل وظروف العيش. حال لا يسهل تفسيرها ولا مجال للتسرع في تحديد السبب. 
لكننا نعرف بأن أفكار الماضي تلك هي الأكثر أصالة أعني القضايا أو المسائل المصيرية التي حكمت الإنسان، الموت مثلاً، وإلا كيف نفسر بقاء بعض من أفكار الإنسان في ما بعد الموت لأكثر من ألفي سنة؟ بل بقاؤها كلها صحبة بعضهم وكأن العالم لم يتغير ولم تتغير وتختلف الأفكار الأخرى مما يخص العيش والعمل وفهم الطبيعة و الإدارة والمجتمع؟
حتى اليوم نحن نريد لميتنا قبراً جميلاً ونريد مآلاً مريحاً وربما مرفهاً، وربما جعلنا قبره سكناً في مكان لائق ونرسل له بين حين وحين ورداً أو نسقيه ماء أو نخاطبه بتحياتنا ومحباتنا أو نعتذر أو نطلب عفواً.. أكثر من هذا قد نوقف ملكاً أو مالاً لإسعاده. 
ثمة تفسير لبعض المفكرين أن الإنسان في الحياة، يخشى من الموت وسلطانه أكثر مما يخشى الحياة، بل هو يبجله ويرضخ لأوامره، فيريد الفرد الحي أن تظل مادياته معه وأن يصحبه ذهبه أو نفوذه .. المصريون مثلاً جعلوا كل فنونهم وعلومهم لتزيين وترسيخ عمارة مقابرهم، أرادوها أن تظل مهابة متنفذة ولها السطوة أو السلطان والأكثر ان تبقى ولا تفارقهم 
الحماية.
نعم، مصيرياً، نحن باتجاه مفازة لا نهائية السعة والغموض، مجهولة، لا ندري إلا بما قيل لنا عما فيها، وما سيقع علينا منها وثمة حقائق أو أساطير ..
والغريب أن فكرة أو حقيقة الموت وحتميته كانت على مدى الأزمنة كلها، سلاحاً لاخضاع أو لتهذيب الناس. ومثلما اتخذها لذلك المهيمنون، أثرياء يتحكمون أو ملوك طغاة أو مربون يردعون الخارجين عن القانون المرسوم والأعداء وأعوانهم، اتخذتها، على مدى أوسع وأطول زمناً، الأديان وسائل للأغراض نفسها، أي تهذيب الإنسان أو ردعه عن أن يضر أو يسيء للناس وحتى لنفسه!
ابتسامة جوكندا تفضح ما وراء الجمال وتشي بما هو مؤسٍ وراء كماله. 
الجمال كله لم يخف حزناً لم يجد إفصاحاً آخر عنه، نوع آخر مختلف هو ضحك وتهريج البهاليل والساخرون الكبار والمهرجون ومن يخلطون الصالح بالطالح.. وراء ذلك كله لا انتصار أو زهو أو فرح أو نشوة وسعادة، وراءه إشكال لا حل له سوى النظر بوعي لكن بعجز مؤسف لما هو واقع .. ونحن الذين قرأنا عما رأى وعانى سوانا من المنتبهين ومن شديدي الذكاء ودقيقي البصر وواسعي البصيرة، من حكماء وسادة قوم وأهل جدارة ومن الكتاب الجيدين والمفكرين والعلماء وأهل الفن، نقرأ أو نرى أعمالهم ونعلم أنهم ارتحلوا من مراكزهم ومن ناسهم وكل دنياهم، فهم رقّد في مدافن بعيده، لا نراهم ولا يروننا .. ليس غير أن نقرأ أعمالهم ومذكراتهم وسيرهم لا لنتحدث مع ماضيهم أو نحاورهم، ولكننا نحاول، نسعى لأن نجد خلاصاً، بارقة انقاذ أو عزاء أو مشاركة فيما مر بهم وما امتحنوا ونمتحن به نحن بعدهم، أيضاً وهذا كامن لا يعلن، لنعرف كيف واجهوا ذلك الذي يفزعنا نحن 
اليوم.
الأديان أعطته صورة الإنسان الزائل، فالكنيسة تقرع الأجراس والمساجد تؤذن والكتب المقدسة تصور له العاقبة أو النتيجة الفاجعة، تواجهه بها وجهاً لوجه بمن يموت أمامه، لينتبه أو ليتعظ..
وهنا تكون لنا ثلاثة اتجاهات في الممارسة وفي مواجهة هذا الاشكال أو هذا الرعب، بعض يضيعه، يبعده عن وجهه وذاكرته بتضييع إدراكه هو أو إضعافه، بما يخدر، من كحول أو دخان أو ممارسات عابثة، وبالجريمة أحياناً.
بعض في الرضوخ المؤدب، الورع، والاستسلام، أي بتقوى الله والعمل بما أوصى والاستجابة العاقلة لما شاء. ولقد درب الإنسان نفسه أو دُرِّب لأن تكون طاعته أو استجابته برضاه هو وأنها نعمة أُنعِم بها عليه ويشكر الله إذ هداه وانقذه من شر حاضر وشر ينتظر.
والآخر، الثالث، الذي يبدو لي الأكثر والأعمق حزناً ومحنة، هو ذلك الذي لا يراعى الإنسان فيه حلاً لضعفه بإزاء ما قدر عليه وحُمَّ به، إلا أن يبتسم ابتسامة الألم المرير الهادئ مع إدراك المعنى.
هل أقول أننا نهرب منه بالعمل أو اللهو أو الانغمار بما يشغلنا عن ذكره؟ ما أعظم إذاً وما أكبر نعمة النسيان!
في كل المراثي التي قرأتها، لم أعدم شعوراً، فكرة، فحواهما ما كان يجب أن يموت أو يغيب، و هو الفقد
أيضاَ!
ما دام الأمر يخرج من الحياة ويمضي، فما نقوله وما نرضى به أو لا نرضى، لا يقدم ولا يؤخر .. بقي أن نتساءل، وهو مهرب أيضاً، وهو استسلام آخر، لماذا القبور حول مراقد الأولياء أو الصالحين أو الأئمة أو القديسين، في رحاب الكنائس أو حول المعابد وقريباً منها؟ لماذا نريد ناسنا قريبين من أولئك بعد أن صاروا بعيدين عن الحياة، وصاروا بعيدين عنا؟ أليس هو إقرار آخر بأننا بعد الموت نريد عوناً وهو إقرار بأننا نخاف، أننا فزعون مما سيقع وما سنواجه وأن أولاء الصالحين، لهم قرب من القوة الكبرى، الحاكمة والخالقة، التي سنواجهها؟ إيمانياً، هو ملاذ بكريم صالح يتمتع برضا الله وقد يضفي علينا من بركاته ما يحمينا أو يخفف عنا أو يشفع لنا. وفكرياً أو فلسفياً، نحن نقر الآن بإيماننا بما بعد الموت، وأظهرنا ما كان كامناً فينا من إيمان، وأننا مستلبون من البدء وكنا نحاول أن نظهر بما نحن لسنا عليه من 
حال. لا مجال بعد للتهرب ولا مناص من الرقود بانتظار ما يجري والخضوع للإرادة الكبرى وأن نرتضي بما حكم به الأحياء .. أما أن يشجيك هذا وانت غير قادر على فعل شيء، فذلك هو ما نحن فيه وما نحن عليه، وهو أخيراً ذلك الموت وذلك سلطانه المخيف ..
وعزاءً لنا قبل الارتحال، ولغيرنا من بعد، يحضر القول أو الحكمة أو تظهر ورقة الحكم :
ما دامت المغادرة حكما لا بد من تنفيذه والقبول به فلا خلاف على أننا إذا تركنا أعمالاً طيبة فسنمضي ومعنا ظلُّ رضا وخيطُ هناء، شاحب ولكنه ما يزال يضيء...! وهَمٌ هذا أم تصور؟
هو كل ما ظل لنا على كل حال، فلا نخسره!