في عدم الحاجة الى غرامشي

ثقافة 2020/09/04
...

يوسف محسن 
 
المثقفون لايشكلون طبقة اجتماعية أو مؤسسة سياسية، وإنما هم منتجو الأفكار وصانعو الرأي العام وممثلو التيارات الفكرية، والأدبية، والثقافية، يؤسس المثقفون المعرفة المنظمة في ضوء رؤية فكرية، ويصنف عبد الكبير الخطيبي المثقف، بوصفه رجل الفكر، وتدل كلمة مثقف على الحذق والتقويم وباتساع المعنى أصبح المثقف هو الذي يهتم بالعلوم والفنون والآداب وباختصار هو الإنسان المتمكن ويؤدي عدة وظائف متفاوتة:
- وظيفة بيداغوجية وتقنية.
- وظيفة اجتماعية فسواء كان ملاحظاً أو عنصرا فعالا أو مجرد ناشر للمعرفة فإنَّ المثقف يقوم بدور تنمية الفكر، كان المثقف في جميع المجتمعات يلعب دور الوسيط، وعمله الأصلي يكمن في تشريح المجتمع إلا في إدارة المجتمع.
- وظيفة أخلاقية: سواء كان معاصرا للعقل المطلق، أو للكلمة في خدمة الإنسان ام كان مناصراً لقضية أو لمثل أعلى فهو مطالب أن يتكيف باستمرار مع المبادئ والقيم التي يدافع عنها.
 
نقض غرامشي
يقع أغلب الباحثين في الحقل الثقافي والسوسيولوجي العراقي تحت وطأة المقولات والمفاهيم الغربية، إذ تجري عملية إعادة إنتاج الجهاز المفاهيمي الغربي بصورة مستمرة من دون إيجاد حقل ترابط لهذه المفاهيم والمقولات أولاً أو تكيف هذه المقولات أو تبيئتها في الحقل العراقي، لذا فإنّ إعادة إنتاج هذه المفاهيم بوصفها حلاً سحرياً لإشكالية المثقف/ الدولة تؤكد خمول الانتاج الفكري وضحالة التحليلات العيانية في الحقل الثقافي العراقي، يعيد الباحثون والكتاب انتاج أطروحات غرامشي في المثقف والمثقف العضوي واللاعضوي والمثقف التقليدي من دون وضع كل هذه الأشياء والتي تحولت إلى بديهيات غير قابلة للنقاش تحت التشريح النقدي.
 
مقاربات في الحقل العراقية
هذه المحاولة، تقوم على اعادة المصفوفات والمفاهيم (الدولة/ المجتمع/ المثقفين) ووضعها تحت التفحص النقدي، من خلال الاستعانة بمنهجية صارمة انطلاقاً من فرضية، ان فشل تبلور دولة أو مجتمع بالمعنى العلمي الحديث معناه فشل تبلور فئة المثقفين. ونحن ننطلق من مجموعة تساؤلات.
 هل توجد في العراق دولة؟ وهل تمتلك هذه الدولة هوية سياسية أو فكرية أو اقتصادية؟ وهل يوجد مجتمع متسق في الحد الأدنى، ناضج وقادر على البناء، تتوفر فيه حدود العمل الاجتماعي والتنمية الاجتماعية والبشرية؟
 
تفحص الدولة، المجتمع
نشأت الدولة العراقية الحديثة في العام 1921، أصلاً على ترميم الطبقات القديمة (شيوخ القبائل، الأغوات الكرد، كبار التجار، السادة، الضباط والاشراف) تمكن هذا التحالف من تشكيل نخبة سياسية على الرغم من أنها تفتقد لمشروع حداثي ليبرالي فاعل في احشائها ولكنها استطاعت نقل المجتمع العراقي من مجتمع متشرذم يقع تحت وطأة الصراعات الطائفية واللاهوتية إلى مجتمع/ دولة، صاحب هذه العملية تطور علاقات الإنتاج الاجتماعي وتشكل النقابات والاتحادات المهنية والروابط الثقافية فضلاً عن الاستقلال النسبي للسلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ومُنح المجتمع الكثير من الصلاحيات لإدارة ذاته عبر الأحزاب السياسية، وتبلورت مرجعيات حديثة للفرد والجماعات، تتجاوز المرجعيات التقليدية، أدت عمليات التحديث على الرغم من ضعفها داخل بنية المجتمع العراقي إلى نشوء الطبقات الاجتماعية الوسطى وطبقة تجار تعتمد الملكية الاجتماعية والثروة كمجال مفصول عن الدولة، وبروز طبقة عاملة وجمعيات واتحادات تعبر عن مصالح متعارضة وازدهار نسبي للصحافة، وبروز كتلة منظمة من المثقفين، بعد العام 1958 ونتيجة المتغيرات الراديكالية في تكوينات الدولة فقد جرى إضعاف مؤسسة الملكية الاجتماعية، نتيجة الإصلاحات الزراعية، وتقويض الملكية العقارية، وبروز الدولة كمالك للثروات، وتحكمها بالمجتمع المدني داخل السياسات الوطنية والسعي إلى استيعاب كل البنى الاجتماعية، الى حين ظهور (الدولة البعثية) في منتصف ستينيات القرن الماضي التي أممت الرأسمال الخاص، ما ادت هذه الإجراءات إلى إضعاف انفصال المجال السياسي عن المجال الاقتصادي، وهيمنة الدولة على الحقل المدني، ونشوء اقتصاد مركزي، شيدت هذه الدولة نظاما متشابكا من البنى القرابية والأيديولوجية الريعية، والحزب الجماهيري الواحد المسلح، والهيمنة على وسائل الإعلام، والجيش، والأجهزة البوليسية، فضلاً عن التلاعب بالمؤسسات الاجتماعية التقليدية، وسيطرة نظام العصبية السياسية هذه الوضعية التاريخية منحت الدولة البعثية الفاشية البدوية درجة عالية من الضبط، والقسوة الجامحة.
 
الطبقة البرجوازية الوطنية
أما في المجال المجتمعي، فقد أدى إلى أزمة تكوين الطبقة البرجوازية الوطنية العراقية، وصعود الفئات الريفية بايديولوجيتها القومية الرثة التي تتسم بالنزعات الشوفينية، لذلك أنتج دولة توتاليتارية، تلغي الاختلاف والتنوع الاجتماعي، والتعددية السياسية، وتمارس التهميش للجماعات الأخرى، تقوم بينها الداخلية على حاكمية الحزب، وبسبب أزمة التكوين للدولة الوطنية العراقية منذ عشرينيات القرن الماضي، لم يستطع المجتمع العراقي، أن يبلور تنظيمات مؤسساتية (منظمات، تجمعات، اتحادات، روابط ثقافية صلبة) قادرة على تحجيم بواكير الدولة الشمولية. يضاف إلى ذلك ضعف القطاع الخاص العراقي وهشاشة الطبقة الاجتماعية الوسطى وضعف وضوح مشروعها الفكري أو الطبقي والتي كان من الممكن ان تحول دون تضخم الدولة البعثية كـ (رأسمالي). 
فقد تم التلاعب والهيمنة على المنظمات الثقافية من قبل الجهاز الحزبي وإلحاقها بأيديولوجية الدولة أو صناعة منظمات من قبل الدولة كوسيلة للتحكم في المجتمع وتمت السيطرة على وسائل الإعلام والدعاية والمجلات والصحف. بعد العام 2003 وانهيار الدولة الشمولية حدث انفراج نسبي وتنازل الدولة عن الهيمنة على المنظمات الثقافية، ولكن لم يعط للمثقفين والمفكرين دور كامل أو شريك كشريك سياسي فضلا عن ذلك تماهي المثقفين العراقيين مع الأيديولوجيات القومية والطائفية والاثنية والتركيبات الاجتماعية السفلى من المجتمع العراقي.
 
لا مفارقة تاريخية
 ان المثقفين العراقيين كأفراد اجتماعيين لا يشكلون (مفارقة تاريخية) لتكوينات المجتمع العراقي، انهم متطامنون مع هذا الكون التقليدي للمجتمع السياسي (احزاب – بنى اجتماعية – طوائف سياسية – قيم – تقاليد) في مجتمع قهري لم تتشكل أسسه الأولية، مجتمع يفتقد للتنظيم العقلاني، بنيته هشة يؤسس ذاته وبشكل دائم على الفوضى وهو مجتمع تابوي تتحكم فيه القيم الموروثة (الطائفية – العشائرية – الخرافية) أو الثقافات الرثة والأنساق البيطرياركية في كل الحقول الثقافية والسياسية والفكرية نتيجة لسيطرة الأنظمة العسكرتارية فضلاً عن ضعف التنظيمات السياسية وهيمنة القادة التقليديين الدينيين والسياسيين، وتدهور الشروط الاجتماعية للتنمية الاقتصادية وانهيار عناصر المدينة والتحضر داخل هذه التركيبة الالتباسية الغامضة للمجتمع العراقي. نتساءل عن السبب الكامن حول عدم تشكل المثقفين العراقيين كقوة تنويرية في المجتمع العراقي على الرغم من التمزق السياسي والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية. نجد الإجابة بشأن هذه الأسئلة ضمن سيرورات تكوين فئة المثقفين العراقيين والمرتبطة بشكل ما بأزمة تكوين البنيات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وهشاشة الدولة العراقية منذ التأسيس الأول، وعدم تبلور الطبقات الاجتماعية، والبنى المؤسساتيَّة.