العباس بن علي (ع) رائد الجود بالنفس

استراحة 2020/09/04
...

  جواد العطار
 
كان أبو الفضل العباس بن علي (ع) يمثل يوم الطف قامة من الصمود الهائل، والإرادة الصلبة ما يفوق الوصف، فكان برباطة جأشه، وقوّة عزيمته، جيشاً لا يقهر، فقد أرعب عسكر ابن زياد، وهزمهم نفسيّاً، كما هزمهم في القتال. وما زالت بطولاته حديث الناس في مختلف العصور، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب قد ضمّ الآلاف من المشاة وغيرهم فيلحق بهم الخسائر. وينقل الشيخ الباحث باقر شريف القرشي عن المؤرخين ما سجلته أقلامهم عن بسالته يوم الطف أنه كلما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه يسحق بعضها بعضاً قد خيّم عليها الموت، واستولى عليها الفزع والذعر قد خلعت منها الافئدة والقلوب، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً. وفضلاً عما يتمتّع به أبو الفضل العباس (ع) من البطولات الرائعة فإنّه كان مثالاً للصفات الشريفة، والنزعات العظيمة، فقد تجسّدت فيه الشهامة والنبل والوفاء والمواساة لأخيه الامام الحسين (ع) في أيام محنته الكبرى، ففداه بنفسه ووقاه بمهجته، ومن الطبيعي أنْ تلك المواساة لا يقدر عليها إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان، وزاده هدى.ومثّل العباس (ع) في سلوكه مع أخيه الامام الحسين (ع) حقيقة الاخوّة الاسلامية الصادقة، وأبرز جميع قيمها ومثلها، فلم يبق لون من ألوان الادب، والبرّ والاحسان إلاّ وقدّمه له، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له، أنه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب، وكان قلبه الزاكي شديد العطش، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الامام الحسين وعطش الصغار والنساء معه، فدفعه شرف النفس، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده، ومواساتهم في هذه المحنة، فكان قلبه يحمل المودة والرحمة تجاههم، وأيّة مودّة مثل هذه المودّة؟.
والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بتضحية العباس (ع) ونصرته لاخيه الامام الحسين (ع)، أنّها لم تكن بدافع الاخوة والرحم وغير ذلك من الاعتبارت السائدة بين الناس، وإنّما كانت بدافع الايمان الخالص لله، ذلك الإيمان الذي تفاعل مع عواطف أبي الفضل، وصار عنصراً من عناصره، وقد أدلى بذلك في ارجوزته القصيرة حينما قطعت يمينه في القتال، قائلاً:
(والله إن قطعتم يميني، إنّي أحامي أبداً عن ديني، وعن إمام صادق اليقين، نجل النبي الطاهر الامين).
وهذا الرجز صريح واضح في أنّه يقاتل دفاعاً عن الدين، وعن المبادئ الاسلامية الأصيلة التي تعرضت للخطر أيام الحكم الأموي الأسود، كما أنّه إنّما يقاتل دفاعاً عن إمام المسلمين سبط رسول الله وريحانته الإمام الحسين المدافع الأوّل عن كرامة الاسلام، فهذه هي العوامل التي دفعته إلى التضحية، وليس هناك 
أي دافع آخر وهذا هو السرّ في جلال تضحيته، وخلودها عبر القرون والأجيال.
لقد استشهد العباس من أجل المبادئ العليا التي رفع شعارها أخوه الإمام الحسين (ع)، والتي كان من أهمّها أنْ يقيم حكم القرآن، وينشر العدل بين الناس ويوزّع عليهم خيرات الأرض، فليست هي لقوم دون آخرين. لقد استشهد أبو الفضل من أجل أنْ يعيد للإنسان المسلم حرّيته وكرامته، وينشر بين الناس رحمة الإسلام، ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور، وبناء مجتمع لا ظلّ فيه لأي لون من ألوان الفزع، والخوف.