الشفافيَّة في غناء سعدون جابر

الصفحة الاخيرة 2019/01/07
...

 د. رشيد هارون
سأخوض في الشفافية التي تضمنتها الكلمات التي غنّاها المطرب سعدون جابر، الذي ابتدأ رحلته الغنائيّة الحقيقيّة بداية العقد السبعيني، وقد عدّت أغنيته «يا طيور الطايرة» (التي غناها عام 1971 من أهم أغانيه، وعلى الرغم من أن صاحبها يمتلك صوتاً متفرداً وظل يزاحمها دوما بأغانٍ أجمل، فإنّها ما زالت حتى اليوم تحمله من قمة إلى قمة) وكانت هذه الأغنية البداية الناجحة انطلاقةً فنيّةً وتعاوناً مع الملحن المبدع كوكب حمزة المتأثّر بالأجواء الريفيّة صوراً شعرية وحميميّة،
 فاختار الملحن نتيجة لذلك التأثر كلمات شفافة ولحنها لتبقى مؤشراً فنيّا على قدرته اللحنيّة، وأسند مهمة غنائها الى سعدون جابر، فلم تكد تُذكر الطيور الطايرة إلّا وذُكر كوكب حمزة وسعدون جابر:
(ياطيور الطايرة مري بهلي/ ياشمسنا الدايرة ضوي لهلي/ سلّميلي وغني بحچاياتنا/ سلميلي ومري بولاياتنا/ آه لو شوكي جزه وتاه او ينجمه/ آه لو صيف العمر ما ينطي نسمه).
 وقد صار كُتَّاب الأغنية يستثمرون الطير في قصائدهم على نحو واسع فيما بعد: (يا طير الرايح لبلادي/ اخذ عيوني تشوف بلادي)، و ( بالله يا طير الحمام الي مسافر/ بلغ احباب السلام)، و (يحمام بلغ احبابي من عندي السلام). 
    بداية سعدون جابر هذه السبعينية زمنيّا- بداية السبعينيات- المستقرّة سياسياً واقتصاديّا أتاحت له وللملحنين الذين تعاونوا معه أن يختاروا كلمات شكلّت فيها الشفافية حيّزاً كبيراً، إذ لم يدخل العراق في حرب بعد، ولم يتم التضييق على الحريات الفردية والفكرية على نحو ما حصل ثمانينيّا وتسعينيّا وما تلاهما حتى اليوم. 
فكان المنتج من الكلمات يحمل قدراً كبيراً من الشفافية والتفاؤل والبقاء على قيد العهد والوفاء والمحبة، ولم يكن الهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي قد أخذ من الشعراء مأخذاً يشغلهم عن التجارب الشخصية في الحب، فجاءت كلمات الأغاني التي غنّاها سعدون جابر معبّرة عن تلك التجارب التي عاشوها أو عاشها الناس من حولهم على نحو:
(تروح غالي وترد غالي// روحي الك بالانتظار/ مثل ما أودعك أشوفك احنه موعدنا المطار/ شما تغيب انت اعل بالي/ وسلوتي بليل ونهار/ آه يا ارض المطار).
 وكأنَّ ثمّة بناء للشفافية يربط معظم أغاني سعدون جابر، فهناك أغنية «مشوارك حبيبي أبد ما منه مشوار/ يلي بصوتك نغم وعيونك أسرار/ ويليحبك حبيبي لازم ايغار» وأغنية «أريدك..» وأغنية «ينجوى» و «على الله او يا بشيرة/هواج شلون أغيره»، وبذلك ينفتح سعدون جابر عربيّا على صعيد تعاونه مع الملحنين كما هو شأن التعاون مع الملحن الكبير بليغ حمدي، ويفتح باباً على المستمع العربي ليصبح سفيراً للأغنية العراقية وذاك بسبب من شفافية الكلام الذي غناه وعمقه وجمال الصور التي يقدّمها التي تنزل الى عتبة الرجاء والتوسل والعتاب والسؤال الحميم، كما في أغنيته: ترضون بهيمة تخلوني؟ / ذبلان الشوك البعيوني؟» فضلاً عن استمرار صعود خط شروع اللحنية العراقية التي قدّمت لحناً شفيفاً لكلام شفيف يمس الهمّ مسّاً ليعمّق دائرة الشفافية ويحجّم من دائرة القسوة، وعلى نحو:
«حَبّيتك حُب لَهفة بلهفَة» ولا شكّ بأنّ عمق التجربة التي يصوّرها الشاعر ويلحنها الملحن سواء أكانت في الشفافية أو القسوة أو بين بين ينجح المطرب المبدع في أدائها، ولذلك لا نعدم وجود أغنية ملحنة لحنا ناجحاً وهي تخوض في شفافية الحب، وأخرى تخوض في القسوة وملحنة لحنا ناجحاً من قبل ملحن واحد، كما في أغنيتي «يم داركم، و «جذاب» التي لحنهما الفنان طالب القره غولي، بيد أن الشفافية في الكلام المغنّى غالباً ما تترك أثراً نفسيّاً ايجابيّا على المتلقي سواء أعلم بذلك أو لم يعلم، وكذا الأمر بالنسبة الى اللحن الشفاف الذي يتحوّل الى تمثلات أدائيّة ناجحة بين حناجر المطربين. 
وكان سعدون جابر الذي حمل في أعماقه عوالم الجنوب أداء ممزوجاً بنكهة الأطوار الريفية وبستة المدينة يغني الكلام الشفاف ويبدع في أدائه ترجيحاً للشفافية على القسوة بعد أن أسس سبعينيّا، وأخذ من شعراء ظهروا في ظرف يبعث على الشفافية ولا يقدّم القسوة
 عليها.