عالم واحد في حريقين

ثقافة 2020/09/05
...

دعد ديب
 
رائحة الموت التي أزكمت النفوس؛ وأوصدت أبواب الروح؛ في تسعينات القرن الماضي، مخلفة وراءها تاريخاً مظلماً، لما أطلق عليه آنذاك اسم العشرية السوداء، يعيد أحداث تفاصيلها إلى الذاكرة سعيد خطيبي في روايته ((حطب سراييفو)) من منشورات ضفاف – الاختلاف لعام 2018، والتي رشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2020 لينسج فيها حكاية الوجع الإنساني لبشر مزقتهم الحروب والكوارث.
وطبعت ذاكرتهم بفجائع مرت وعبرت على رعب نزيفهم، ليبقى الألم وحده القاسم الذي يجمع فيما بينهم، ويفرقهم ما عداه كل شيء.
يتوزع منجز خطيبي في عالمين يتنازعانه جسدًا وعقلًا، وهو يحفر في تلافيف الفكرة التي تتمحور حول إشكاليات الهوية والانتماء، والحروب التي ما فتئت تندلع وتتفجر حممها الكاوية، ولا تكاد تهدأ في مكان حتى تشتعل بين هنا وهناك، تلك المواجع التي سبق له أن عرج عليها في روايته “أربعون عامًا في انتظار إيزابيل” ويعاود التأكيد عليها في روايته التي بين أيدينا “حطب سراييفو” كرسالة مضمرة لواقع مشابه يمتد في أكثر من بقعة جغرافية، يتشارك فيه أناس تتقلب مواجعهم على نار جحيمها، ولا مهرب لمحاولة الفرار منها، فرائحة الحريق المشبوب أبعد من أن تخفى، تتضح من هسيس الأقدار المؤلمة التي يتساقط فيها جيل الشباب الخائب بأحلامه المتهاوية، بين سليم وأبويه؛ إيفانا وأسرتها؛ وبين الجزائر وسراييفو؛ يتناثر السرد مابين الماضي والحاضر، بين ما اختزنته الذاكرة من بؤر حرجة في كل من تاريخ البلدين، والوضع الحالي الذي يصفعنا بنتائجه التي انعكست على الشخصيات المحبطة التي تحاول أن تفهم وتعرف الذي حصل ولماذا حصل، في وجوه الاقتتال المتشابهة في البلد المحاصر بالموت والجريمة كمفرزات حرب تلسع بنارها الجميع بلا 
استثناء.
في خطين متوازيين تتشارك فيهما الأحداث والمصائر، يدور أحد منهما في بلده الجزائر على لسان سليم الصحفي الموزع تاريخه بين أسرتين ومدينتين، والآخر في سراييفو تحكيه إيفانا، حيث للقضايا العالقة وجه متشابه، في ذينك البلدين لناحية الحرب الأهلية التي مزقت النسيج الاجتماعي فيهما، وحطمت البنى التحتية الهشة، والقتال الذي لبس لبوس الطوائف والأديان وكأنه خرج من طاقية حاوي، ليطرح التساؤل المحير أين كان يختبأ كل ذلك، وكيف يتشابه نيجاتيف المشهد في منطقتين تفصل بينهما بحار وجبال، من سيارات مفخخة؛ وأسلحة من أحدث طراز؛ واحتقان مذهبي غريب لبشر يتعايشون معًا منذ سنين طوال، وشخصية ناطور الأرواح بلحيته الأفغانية وحذائه الأميركي، وساطوره الذي يقطر دمًا، موضحًا أن كل منطقة يجتاحها التشدد والإرهاب والعنف، تحصد نتائجها بالدرجة الأولى الفئات المسحوقة بالفقر والتشرد والانتهاك والعوز لكل ما يمت للبشرية بصلة، وتتعدد وتتكرر حوادث الاغتصاب التي تقود إلى الجنون، ويبقى هاجس الموت هو الحاضر في كل مكان. 
استخدم الكاتب تقنية تواتر الأصوات السردية المتعاقبة بين كل من إيفانا وسليم، سليم الهارب من دياره إثر إغلاق الصحيفة التي يعمل بها على خلفية قيامها بلقاء مع معارض للسلطات القائمة، ومن حمى أصوات القذائف وزعيق الهاون في بلده، إلى سلوفينيا حيث تنتظره هناك تفاصيل جديدة عن حياته وأصوله، ليتفاجأ بحكاية غريبة حول حياته وأصوله العائلية بأن عمه الذي يرتحل إليه بقصد زيارة كان لها أن تكون عابرة، هو والده الحقيقي في دراما أخرى لحياة هذا الأخير، والغموض الذي يحيط بها وتاريخه الملتبس مع الثورة الجزائرية واتهامه بقتل زوجته، لتتضح فيها حكاية سليم الابن، ليعود بعدها من سلوفينيا إلى بلده ليفتح الملفات المدفونة وليفتش عن أصوله؛ وحقيقة نسبه؛ ومن هي أمه. 
ليتقاطع مصيره مع إيفانا ابنة سراييفو التي تأمل بأن تكون ممثلة أو كاتبة مسرحية وتحلم بالمسرح والتأليف، لكن المسرح أخذته قذيفة من حمم الموت كما أخذت أبيها من قبله وتركتها للتشتت والضياع، إذ تلتقي به بشكل عابر في سلوفينيا حيث تعمل نادلة في مطعم عمه أو أبيه حسب ما وصلنا مؤخرًا، والذي تعمل عنده كما عرفنا فيما بعد، ليقوم صديقها غوران بقتله إثر خلاف معها.
الحرب وما يرافقها من أزمات معيشية من انقطاع كهرباء أو انعدامها؛ وفقدان المواد الأساسية اللازمة للحدود الدنيا من الحياة؛ ومن حصار للبشر؛ ومن قتل وتهجير؛ وأفواج الشباب العاطل عن العمل، الذي بلغ أقصى طموحه أن يهاجر خارج هذا الجحيم الذي يتمرغ به، وإلا فمصيره الحتمي أن ينضوي تحت لواء أحد أساطين تجار الموت، ومآله أن يعطل عقله وتفكيره، ويصبح لولبًا جديدًا في آلة القتل الدائرة، فأنموذجا سليم وإيفانا يعكسان صورة الشباب، وهما يتشاركان في مصير لم يشاورهما أحد في اختياره، والتفاصيل الخاصة بحياة كل منهما تعمق من فهمنا لدواخلهما كشخصيتين محوريتين في العمل ربما كان للتشابه الغريب بالحروب الأهلية بين بلد وآخر انتفاء تلك الأحقية التي تعطي جهة ما مبررًا لسلوكها في نفي الآخر وإلغائه والتحكم بمصيره مع تباين الفروقات بمسميات العرق والدين. فمن خلال شخصية إيفانا يستعرض خطيبي تاريخ البوسنة والهرسك والصراع الدامي الذي وصلنا عبر التلفزة وأجهزة الإعلام المرئي والمسموع عشية القرن الماضي، إذ وضح كيف أن البوسنيين اعتلى ظهرهم الجميع، القوطيون؛ وبعدهم الهنغارييون؛ وبعدهم العثمانيون؛ ومملكة الصرب والكروات والسلوفينيون؛ وعندما سكنوا بلا غزو اقتتلوا فيما بينهم. 
لعل ما فات صاحب “أربعون عامًا في انتظار ايزابيل” في حكاية الناجين من الطوفان في كل من الجزائر والبلقان - وباستثناء اشارة بسيطة الى الحذاء الأميركي الذي ينتعله الارهابي- أن يشير إلى الجهة المستفيدة من هذا الحريق، من الذي يستثمر في الموت، من يمول؛ ومن يجند، ومن يسهل. قد يستطيع جاهل أن يطلق النار لكنه قطعًا لن يستطيع صنع بارودة أو أي نوع آخر من السلاح، لذا هو مطية سهلة لمتنفذ آخر في سلسلة متواترة لا تنتهي، وهل هي مصادفة تشابه تلك المصائر والسيناريوهات التي تغزو العالم، هذا التشابه بين مكانين بعيدين جغرافيا عن بعضهما وقريبين من التماثل في الأحداث والخراب المدمر. من الجهة المستفيدة التي تحرك وتوجه وتشير؟؟ ربما تقصد خطيبي أن يتجاهل هذا الأمر، لكونه ينفر من نظرية المؤامرة لكثرة ماحمل عليها من شرور وآثام، ولما فيها من معاني الهروب من المسؤولية الأدبية والمادية تجاه ما حصل ويحصل، ولكننا ربما كنا ننتظر من الأدب أن يرسم لنا لوحة للمشهد الآخر الذي لم يعرف ولم يؤرخ، كشاهد ظلي يفسر ويوثق المخفي والمسكوت عنه في زمن تختلط فيه المعايير وتلتبس معاني 
القيم.