هل يُعيد العراقيون إنتاج العنف في الكتابة؟

ثقافة 2020/09/06
...

إستطلاع: صلاح حسن السيلاوي 
 
شجرة الكتابة العراقية العالية، وهي تدغدغ بأغصانها قلوب السحاب، لا تخلو من كلمات جارحة، ولا تبتعد جذورها في أرض الثقافة العراقية، من دون أن تخترق رؤوس الحروب المدفونة بأطنان من الكلمات والأحزان والمواجع.
الكتابة بجميع أجناسها تحمل بقصد او دون قصد أثراً مما عاشه أهلها من مرارة الموت، وتسيد السيف، وانكسار الذوات في ظل انعدام السلام.  يكاد العنف الذي مر على المجتمع لا ينقطع فقد ظهر بأشكال متعددة في الكتابة الإبداعية حتى أن هناك من يرى محاولات لبث الروح في معانيه العدوانية في بعض الأشكال على مدى فترات زمنية معينة. 
ما رأي المثقفين بتسرب تلك العدوانية الكتابية إلى المنجز الأدبي، وما مستويات ذلك العنف في الشعر والسرد؟ هل المبدع العراقي يكتب العنفَ ليعيد إنتاجه أم ليعالج آثار وجوده وينفيه؟ 
 
إعادة إنتاج العنف
الشاعر وديع شامخ يرى أن العنف يمثل واحداً من الأعراض المرضية  للشخصية الإنسانية نتيجة لأسباب متعددة. ولا يستثني شامخ الشخصية العراقية من هذا الداء الفتاك، مشيرا إلى أن نظرة للماضي القريب إلى تاريخنا منذ بداية تشكيل الدولة العراقية 1921  تكشف لنا تأثير مصادر متنوعة لتغذية العنف، ومنها التزاوج غير الموفق بين المزاج المدني والمهاجر البدوي والريفي، التربية الدينية في إبراز عنصر التفوق على الآخر بشيوع  ظاهرة التسامح بدلا من التعايش، الأدلجة السياسية واحتضانها للاحتراب مع الآخر المختلف وغيرها من
الأسباب.
وأضاف بقوله: ولكننا نتلمس آثارها في نكبة اليهود العراقيين في الاربعينيات وسحل وشنق الوصي عبد الإله ونوري باشا وقتل الأسرة المالكة صبيحة 14 تموز عام 1958 .
وأما في ما يخص الحقل الإبداعي، فالكاتب ابن بيئته، وهو أيضا له ملهماته في العنف كتابة وتمثلا وسلوكا.
اذا ما ذهبنا لجذور العنف في الأدب والشعر العربي فسنجد من الكنوز الشعرية والسردية ما يحث على تغذية الروح العدائية تجاه الإنسان.
وبنظرة عامة الى الشعر في حقبه المتعددة منذ عصر ما قبل الاسلام “الجاهلي” الخلفاء والأموي والعباسي وحتى العصر الحديث، سنجد تراثا هائلا من هذه 
الروح المغذية للإرهاب.
وليكن الشاعر المتنبي مثالا على هذه العقلية، لأنه كان شاعر بلاط وطامحا في الوجاهة والسلطة، فقد حول شعره الى دعاية دموية لانتصارات سيف الدولة كما يصور في بيت شعر دموي (نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الأُحَيْدِبِ كُلّهِ كمَا نُثِرَتْ فَوْقَ العَرُوسِ الدّراهمُ) كناية عن نثر رؤوس جيش الروم على الجبل!! وفي السرد نجد شخصية شهريار القاتل في قصص ألف ليلة وليلة. 
وقال أيضا: ومن هذا التراث الفكري والأدبي نشأت بعض الأقلام في العراق وخصوصا في فترة الحرب العراقية الايرانية وما بعد التغيير في 2003 لتعيد هذه الروح العدائية على وفق موجهاتها السياسية والنفعية عموما، لكي تمجّد الحروب والقتل وتشرعن وتشيطن للنزعات الدموية في نصوص شعرية وسردية يندى لها جبين
الانسانية.
لقد تحول المنتج الإبداعي الى شرطي وجزار في بازار الساسة، وأسهم في إشاعة روح العنف وتكبيل مهمة المبدع المثقف التنويري الغرامشي الى تابع لعقلية الهيمنة السلطوية بكل تجلياتها.
للأسف تورط وعن قصد وربما بعوز هؤلاء الكتّاب في إعادة إنتاج العنف بطريقة مرعبة أسهمت في بعث روح  العداء وخلق واحديات مهيمنة ضد الروح العراقية المتنوعة الطيف الثقافي.
ولكن هناك ذرى وهامات عالية في المشهد الشعري والسردي انتجت نوعا متفردا من الإبداع الانساني الذي يبشّر بعالم السلام والمحبة، وينتصر للإنسان وتفاصيله الدقيقة.
 
العنف في الرواية
الروائي هيثم الشويلي أشار إلى إدراك جميع المختصين بمتابعة المشهد الثقافي لما مر به العراق من صراعات وحروب وأزمات متعددة على مختلف الأصعدة؛ ولذلك شهد الواقع الإبداعي لمثقفي البلاد بوجه الخصوص على نصوص تحمل بين طياتها هذه الصراعات التي تمتاز بصور من العنف الذي يرسمه الكاتب سواء كان شعراً أم 
سرداً. 
ولفت الشويلي إلى أن الكاتب ابن الواقع الذي ينهل منه ومن دون هذا الواقع لا يستطيع أن يكتب، فمن غير الممكن أن يُخرج نصاً روائياً من دون الولوج في عمق الواقع المعيش الذي ينتمي له الكاتب نفسه، ولذلك تجد الكاتب العراقي منشغلاً بتجسيد العنف بصورة متلازمة في كل نصوصه، لم يأتِ أي كاتب برواية بمعزل عن صور الدمار والعنف الذي يعيشه كل العراقيين، حتى أولئك الذين يهربون بمخيلاتهم إلى النصوص التاريخية لم يستطع أحدهم أن يكتب بتفاؤل وهو يصَوّر الصراع على الخلافة في العصر العباسي واستباحة بلاد الأندلس تحت مسمى الفتح الإسلامي.
وأضاف موضحا: إذا عدنا للروايات التي صدرت بعد 2003 نجدها كلها قائمة على تصوير العنف بشتى صوره المأساوية وهذا ما تناوله السعداوي في روايته “فرانكشتاين في بغداد” وسعد محمد رحيم في روايته “مقتل بائع الكتب” وسنان أنطون في “يا مريم” و “وحدها شجرة الرمان” أضف إلى ذلك الروائية أنعام كجه جي في روايتيها “طشاري” و “الحفيدة الأميركية” وقد تناولتُ في رواياتي الأربع “بوصلة القيامة” و“الباب الخلفي للجنة” و “فجيعة الفردوس” و “رماد المرايا” كل صور العنف التي عشناها ومازلنا نعيشها حتى اليوم.. والكثير من الروايات التي لا حصر لها، وأنا بتصوري أجد أن الكاتب يكتب لا لغرض إعادة العنف بل من أجل توثيقه ليكون دليل إدانة على جرائم عاشها الشعب العراقي على مر 
العصور..
 
العنف شاغل للأجناس الأدبيَّة
الشاعر عباس السلامي قال: يمكننا أن نعرّف العنف بأنه القوة التي يلجأ إليها الأفراد أو الجماعات، وهي تجسّد بممارسة الأذى النفسي والجسدي في مابينها.
يتخذ العنف أشكالا عدة، وهناك أسباب كثيرة تعزز ظاهرة العنف خاصة في المجتمعات التي تحدث فيها أزمات، وتحولات كبرى، وتكون هذه الظاهرة نتيجة حتمية وممارسة شائعة بين الأفراد، أسباب لا مجال هنا لذكرها جميعا أهمها غياب الوعي، فلنأخذ مثلاً ما مرّ على العراقيين في فترات متعاقبة من سقوط النظام الملكي وما أعقبه من أحداث مأساوية وصولا إلى الحكم الديكتاتوري -1968 2003، سنوات طويلة مورست خلالها على المجتمع شتى أساليب القتل والقمع والتهجير، وعسكرة المجتمع، وتوجه ثقافي ممنهج للقبول بكل ما ينتهجه النظام الشمولي، من قرارات مصيرية تتعلق بعلاقات العراق الدولية، والحروب العبثية، أعقبتها فترة مابعد سقوط الديكتاتورية - فترة، مثقلة بتداعيات تلك السنوات المريرة - ، تعالى فيها الخطاب الأيديولوجي والخطاب السياسي فضلا عن التوجه الإعلامي المتعدد، كل هذه العوامل مجتمعة أسهمت وعززت من ظاهرة العنف، وجعلت منه  ظاهرة ممتدة وعلى فترات متواصلة.
واضاف السلامي بقوله: العنف كان ومازال الشغل الشاغل في كل أجناس الأدب القديم منه والحديث ليس في العراق وحسب بل في أدب الانسانية، وكثيرا ما نتلمس - بالترميز أو بالدلالة وفي أحايين بالمكشوف-، العنف في الكثير من الكتابات التي تبنتها ودعمتها بعض المؤسسات العاملة في الإعلام المقروء والمرئي والمسموع، باعتقادي أن الكاتب الملتزم وغير الموجه حينما يتخذ من الكتابة كوسيلة لمحاكاة العنف أو ملامسته في كتاباته، حتى وإن تراءى للكثير بأنه يبث العنف ويعمل على إشاعته، فإنه يمارس كتابة “أدب العنف” إن جاز لنا تسميته! ليس لأن الكاتب هذا له روح عدائية أو يتخذ من العنف كنهج بالمطلق، بل هي محاولة حثيثة منه لكشف الصور المؤلمة، لأوجه هذا العنف وتعريته كممارسة مضرة ومدمرة لا نجني منها سوى الدمار والخراب والتفرقة بين مكونات المجتمع
الواحد.