شعريَّة المرايا والكلمات في الدليل على بهتان العالم

ثقافة 2020/09/06
...

زعيم نصار
 
"كنت لي مرآة، فصرت أنا المرآة" البسطامي
في كتابهِ الدليل يدرك الشاعر أحمد عبد الحسين أن الحدسَ المضيء يولد القصيدة الأصيلة القوية، التي هي منقذه، وخلاصه، وهو يعي ايضاً أن مادة الشعر هي هذا الغياب الرديء للوجود المبتذل، ويعرف أن الإنسانَ رهينة في المكانِ والزمانِ الذي هو نهاية وموت.
الأفكارُ الرئيسة الثلاث التي تدورُ حولها حركة المرآة والكلمة في كتاب (الدليل على بهتان العالم) هي: الذات– الزمن– الموت، انه حضور في العالم تحت قيود شبكة من المشاريع والأحزان.
في البدء لم يستطع أن ينطقَ، فحصل أن عمل على أن يصل إلى الله بالصمت، يقول:
"وجدتُ في أنقاضِ بيتِ أبي كلمةً
لا أستطيعُ النطقَ بها
لكنّي
بها أتعبّدُ
ولها أقشعرُّ إلى أبدِ الآبدينْ". من قصيدة هي مقدمة للديوان.
لم يستطعْ أن ينطقَ بها، فسمّاها الكنزَ الاسودَ، وبئرَ العطشِ، كلمةٌ لم يتجنّبها الشاعرُ بل حاورها بعمقٍ شعريٍّ، أرى ان كلّ قصيدة قوية، تبحثُ عن محاوِر غير محدد، ولا متوقع، ولا معروف، لتقدّمَ له الدليلَ الملموس على وجودِ عالم يتهدمُ، تفجرهُ الأحزمة الناسفةِ المقبلةِ من الصحراءِ، لتقتلهُ الكلمةُ نفسها، وهي تخرجُ كسيارةٍ مفخخةٍ، من كتابٍ يحملهُ الملتحونَ الغرباء.
ونعرفُ أن الكلمةَ الأولى منذ الأزل تبحثُ عن وجود كائن تحاوره، تبحثُ عن وضعية حوارية، فهي مثل المرآة تحتضنُ وحدة الحوار، لتتجلى فيها، ومن خلالها تتم معرفة المعنى الحقيقي، والفهم، وحقيقة ذلك المعنى يقول أحمد:
"وقعَ على العالمِ كلامٌ كثير
وكانَ الإنسانُ ساهراً على كرمَتهِ
مثل فزّاعةٍ
صامتاً في كلامِ حديقتهِ
حينما فجأةً
شَفرةُ الفجرِ اخترقتْ وجهَه وأنبتتْ له لساناً وشفتينِ؛
ومن يومِها
صارت الريحُ تأتي وتذهبُ منه إليهِ
محمّلةً بالغبارِ
محمّلةً بالكلام." ص11
إنها كلمات عاجزةٌ تماماً عن تجسيدِ الحقيقةِ، نـُذعنُ لها بالمناجاة والصمت في حياتنا من دون مقاومة، وهذا دليل على محدوديتنا وضعفنا، لكننا، في مجال الشعر نرفض الرضوخ لهذا النقص، يجب ان نعالجَه.
هنا نجد أحمد عبد الحسين يعالج عدم الاكتمال والنقص هذا، فيذهب بكلمته إلى وجود آخر يقيم في ما وراء الموت. كأن "الوجود في مكان آخر" كما يقول اندريه بريتون. 
قصيدته واثقة من فعالية الكلمة، ينعتُها احياناً بأنها النسيان، أو البهتان، وبأنها محرومةٌ من لقاء الكينونة، لكنه يتوسلُ اليها، ويناجيها، فيحاورها، ليقول: 
 
لأنّ كلَّ ما لا يبدو في المرآةِ، لا شيءَ.
....
أينهُ في المرايا الطِوالِ التي 
تسرقُ الكنزَ وتعيدُهُ معافىً إلى نفسهِ
.... 
فوقفَ بكاملِ زينتهِ عارياً أمامَ المرآةِ
يُحدّثُ نفسَهُ أنْ سَيَرى شيئاً آخرَ سوى الجسدِ؛
...
مَنْ هذا الذي يريدُ أنْ يحطّمَ مرايا الناسِ
ليـبصرَ روحَهُ
ويرى بُهتانَه
ويُمسكَ اللا شيءَ مزركشاً بزينةٍ لا تراها العيونْ؟
..... 
ـ لأنَّ المرايا التي تتراسَلُ في الظلامِ
تخطئُ حتى لَتظنُّ المرآةُ أنّها قالتْ لأختِها شيئاً 
وهيَ لا تقولْ". ص48
يتضح لي "أن رؤية الشيء نفسه في نفسه، ليست كمثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة "كما أكد لنا بعبارتِه هذه ابن عربي، وبوحدة وجوده التي هي وحدة المرايا أيضاً: مرآة الله، مرآة الكلمات، مرآة الزمن، مرآة الذات، مرآة العالم حيث تلتقي الحقيقة بالخيال في بؤرة واحدة، ومعنى الخيال هنا ان العالم متوهَّم، ما له وجود حقيقي، هذه هي الرؤية الكلية التي يقدمُها لنا دليلُ البهتان ويشترك فيها معه ابن عربي. 
هنا الشعرُ هو المنتصر الوحيدُ على الديمومة؛ والبرهان اليتيم على ان هناك شيئاً ما في هذه الحياة لا يموت.
أليس الشاعر هو الذي يُلقي على الكون نظرةً روحيةً، ببساطتها، وتركيبتها، تلمُّ الشتاتَ، وتجمعُ الاقسامَ التي يتكوّن منها العالم، هذا العالم الذي تمسكهُ يدٌ قويةٌ لتنسفَهُ بمفخخةٍ، وتجعلهُ شظايا على الطرقات، وفي الساحات، هذا عالمٌ ولد ومعه بهتانُهُ، ولد ومعهُ كتابُ طلاقهِ، وتفريقهِ 
وانفصالهِ.
ربما هدفُ الشعرِ النهائيّ، في ختامِ رحلتهِ نحو عالم الجمال، وطننا الأصلي؛ هو النور؛ هو إدخال عنصر الكينونة إلى عمرنا الزائل؛ هو إعادةُ تركيب ذرات الكون المُفككة، بشكلٍ حرٍ وجديد.
لم تكن قصيدتنا هذه نداء استغاثة، او صرخة من اجل النجاة والنجدة من الغرق، لأن الشاعر قد غرق بعد ان ترك رسالته في قنينة يجرفها التيار إلى السواحل البعيدة، الغريق مغموس في حاله، مشغول عن غيره، القصيدة رسالة تبحث عن محاوِر يفتحُ من خلالها مساراً جديدا ليُكملَ رحلةَ الغريق.
إن أحمد عبد الحسين شاعر خيال لذلك عالمه غير حقيقي، ودليله في يدهِ، يقدّم لنا برهاناً، ان هذا العالم قد حدث مرّة واحدة من جهة المادة الواقعية فقط، من هنا يوقّعُ رسالتَه البهتانُ، بهتانُ عالمٍ يتفكك ويزول.
قصيدتُهُ مُتّحدة به لدرجة انها تستطيعُ ان تنقذَهُ من النسيان، رغم حيرته ومحنته أولاً: كذاتٍ مبدعةٍ لتُــــحَفٍ جمالية، وثانياً: هو من لحمٍ ودمٍ، ينتقدُ ويحتجُّ ويناضلُ ويهرمُ ويموتُ على غرارِ كلّ الناس.
قصيدته رسالة تُتيح للإنسان ان يُحقق اتصالَه والتزامَه ومشاركتَه بوحدة الوجود الأصلية، وان يعثر على حقيقتهِ وشكلهِ الأساسيّ، وليدركَ ايضاً ان الموتَ هو النهايةُ الحتميةُ، ويعلم ان الجسدَ هو القوةُ والطاقةُ المحركة لوجودنا، وان مصافحةَ الماضي، هي البرهانُ الظاهرُ على الغيابِ، برهانٌ ينددُ بهذا الجهل التعيس السائد بين الناس، وهم يدفعون القواربَ محملةً بالجثثِ كلَّ صباح.
هنا ايضاً نجدُهُ يبحثُ عن المطلقِ في الأشياءِ والكلماتِ، رافضاً كل محدودية؛ معتبراً أن الشاعر هو الذي يخلقُ بكلماته وجوداُ حرّاً، وحلولاً ناجحة للمستقبل، يصنعُ صوراً حيّة، أقرب ما تكون للإنساني والإلهي معاً، في الزمان والمكان الواحد.
وهو لا يحتاج إلى أي تبرير خارج نفسه. إذ انه يُزاوج بين الحاضر والماضي والمستقبل، بين الانساني وفوق الإنساني، بين الكوكبي والكوني، بين الأرض والسماء.
"يا بئرَ العطشِ
دُلَّ الهُدهدَ،
هُدهدَ آبائِنا المِعدانِ، على ينبوعِ الهواءِ السِّريِّ
فقدْ تكسَّرتْ أقدامُ أرواحِهمْ حُزناً عليه." ص8 
الشاعر لشدّة عطشه إلى الغوص في اعماق المرايا، كلّما لمح سراباً حسبه ماءً، فتصدمهُ نقيصةُ أفول الينبوع، ينبوع النور، فالعطش كناية عن ولعه، وقوة شغفه بالمأمول، يبقى الشاعر يأمل بالوصول للينبوع الذي يروَيه، وإلى نورٍ يسقيه، ومنزل ليستريح فيه، هذا هو عطش العاشق للمرايا وللكلمات، يتوقُ إلى كلمة لا يغطّيها حجاب، 
ولا تفرقة، ولا انتظار لمكان آخر. مكانُه يقيمُ فيه.
وفي الختام نأتي إلى هذا الاستنتاج: نرى ان الشاعرَ أحمد عبد الحسين وهو يجابه الفناء والتفخيخ ينتصرُ بقوته كإنسان وشاعر مختلفٍ ومميزٍ، طاوياً بين أكفانها كل صدى، وأيّ محاولة لقهرهِ تبوءُ بالفشلِ الذريع، وهو يمسكُ دليلَه على بهتان العالم. 
• ديوان "دليل على بهتان العالم" من منشورات المتوسط - الطبعة الأولى
2016.