التعسف في استعمال حق التقاضي

آراء 2020/09/07
...

   القاضي: كاظم عبد جاسم الزيدي 
 
لا شك بأن حق التقاضي حق مكفول و متاح للجميع، حيث يعد هذا الحق من الحقوق الاساسية للاشخاص الطبيعية و المعنوية وان حق الالتجاء الى القضاء هو من حقوق الانسان الاساسية و كفالة الدولة لهذا الحق واجب اساسي لا يمليه عليها فحسب احترامها لمواطنيها وانما تفرضه كذلك كرامتها كدولة متحضرة بين سائر الدول تؤمن بسيادة القانون عند حدوث اي خلافات بين الافراد و الدولة، فالقضاء واقامة العدل هو اول ما احتاجت اليه المجتمعات البشرية.
فالقضاء هو السلطة القائمة على حماية الحقوق وان الاصل في الحقوق عدم التقييد، فصاحب الحق له صلاحية كاملة في استخدام حقه ولا يجوز حرمان اي شخص مما يعتبر من حقوقه الشخصية سواء أكانت حقوقا مالية أو معنوية، إذ إنَّ الانسان كائن اجتماعي بطعبه ولا بدَّ لكي يؤدي رسالته في الحياة من أنْ يتفاعل مع الآخرين وهذا الامر يؤدي الى تضارب في المصالح وقد يضطر الاطراف اللجوء الى القضاء للفصل في المنازعات وانَّ من المستقر فقها وقضاء.
إنَّ من يستعمل حقه استعمالا مشروعا وجائزا لا يضمن ما ينشأ عن ذلك من ضرر، إلا أنه يضمن ذلك الضرر اذا استعمل الحق استعمالا غير جائز او تعسف في استعمال حق التقاضي و نلاحظ أن القانون المدني العراقي جاء خاليا من ايراد تعريف لمصطلح التعسف في استعمال الحق، الا أنه أورد في المادتين السادسة و السابعة منه مبدأ عاما في مفهوم الحق و إساءة استعماله و نص على ان الجواز الشرعي ينافي الضمان، فمن استعمل حقه استعمالا جائزا لم يضمن ما ينشأ عن ذلك من ضرر ويصبح استعمال الحق غير جائز اذا لم يقصد بهذا الاستعمال سوى الاضرار بالغير او اذا كانت المصالح التي يرمي هذا الاستعمال الى تحقيقها قليلة الاهمية، بحيث لا تتناسب مطلقا مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها واذا كانت المصالح التي يرمي هذا الاستعمال الى تحقيقها غير مشروعة، الا انه و رغم ورود هذا المبدا العام فإن المشرع العراقي قد أورد في القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 نصوصا اخرى يمكن اعتبارها من ضمن تطبيقات نظرية التعسف في استعمال الحق حيث نصت المادة (1051) من القانون المدني العراقي على:
1 - لا يجوز للمالك ان يتصرف في ملكه تصرفا مضرا بالجار ضررا فاحشا و الضرر الفاحش لا يزال سواء كان حديثا ام قديماً.
 2 - و للمالك المهدد بأن يصيب عقاره ضرر من جراء حفر او اعمال اخرى تحدث في العين المجاورة أن يطلب اتخاذ كل مايلزم لاتقاء الضرر و له ايضا ان يطلب وقف الاعمال الجديدة او اتخاذ ما تدعو اليه الحاجة من احتياطات عاجلة ريثما تفصل المحكمة في النزاع.
3 - و اذا كان احد يتصرف في ملكه تصرفا مشروعا فجاء اخر واحدث في جانبه بناء و تضرر من فعله فيجب عليه ان يدفع الضرر عن نفسه و ان حق التقاضي مقيد بضرورة وجود مصلحة جدية و مشروعة و يعد متعسفا من يمارس هذا الحق، من دون ان يستند الى مصلحة او كانت مصلحته غير جدية او غير مشروعة او كان الادعاء بسوء نية او بقصد الكيد و الافتراء و ان عدم التناسب يكون اما في صورة عدم وجود مصلحة مطلقا او تكون المصلحة تافهة او ضئيلة، فإذا كان استعمال حق التقاضي يضر بالاخرين في حين انه لا توجد اي مصلحة او منفعة تعود على مستعمل، فإن ذلك يعد متعسفا اذ انه يكون قد فقد غايته وهي تحقيق المصلحة و اصبح استعمال هذا الحق وسيلة للاضرار بالغير، فحيثما تتخلف المصلحة فاننا نكون امام تعسف في استعمال الحق اما المصلحة القليلة الاهمية او التافهة فهي لا تتناسب مع الاضرار الكبيرة التي قد تصيب الغير و في هذه الحالة نكون امام موازنة بين المنفعة التي يبتغيها مستعمل الحق و الضرر الذي قد يلحق الغير فان كان الضرر جسيما مقارنة مع المنفعة التي يجنيها صاحب الحق كنا امام تعسف في استعمال ذلك الحق و لا يجوز استعمال هذا الحق لتحقيق مصلحة غير مشروعة ولو كانت المصالح تعود على صاحب الحق ذات اهمية كبيرة و المصلحة المشروعة او القانونية هي المصلحة الجديرة بالحماية القانونية والتي تتفق مع الغاية من تقرير الحق و الا يكون ذلك بقصد الاضرار بالغير، فالمصلحة المشروعة هي مصلحة تتفق مع النظام العام والآداب العامة وهي المصلحة التي يعترف بها القانون و يحميها فيكون المدعي مسؤولا اذا اساء استعمال حق التقاضي بان استعمله في غير ماشرع له كما لو استعمله بقصد التشهير بخصمه او تشويه سمعته و ان الدستور العراقي كفل حق التقاضي، حيث نصت المادة 19 من الدستور العراقي النافذ لعام 2005 على: (حق التقاضي حق مصون و مكفول للجميع) وحق التقاضي يتكون من جانبين الاول يتمثل في حق الشخص على الدولة بتوفير هذا الحق له والجانب الثاني يتمثل في حق الدولة على الشخص المثول امامها والدفاع عن نفسه و ان تهيئ له الاسباب و الوسائل الكفيلة بحماية هذا الحق و تعتبر الدعوى القضائية هي الوسيلة القانونية التي يتوجه بها الشخص الى القضاء للحصول على تقرير حق له او حمايته وقد عرف المشرع العراقي الدعوى في المادة (2) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل بانها: ( الدعوى هي طلب شخص حقه من اخر امام القضاء) و الدعوى تنقسم الى دعوى مدنية و دعوى جزائية و ان الشروط العامة للدعوى المدنية تتمثل بالاهلية و الخصومة و المصلحة، اما الدعوى الجزائية فهي بالأصل وسيلة يلجأ اليها المجتمع من اجل اصلاح الضرر العام، الذي لحق به نتيجة الجريمة المرتكبة وقد نظم قانون اصول المحاكمات الجزائية احكام الدعوى الجزائية ومن المعلوم ان الجريمة التي تعني بها الدعوى الجزائية لا يقتصر ضررها على تهديد أمن وسلامة المجتمع والمساس بمصالحه، بل تتعدى في ضررها الى مصالح الافراد و تسبب ضررا لهم سواء تعلق بحياتهم او مالهم او مشاعرهم ومن حقهم المطالبة بالتعويض و من اشكال التعسف في استعمال حق التقاضي إقامة الدعوى للاضرار بالخصم وتشويه سمعته و اوضح مثال على التعسف في مجال التقاضي في الدعوى الجزائية هي الدعوى الكيدية و الاخبار الكاذب وان ذلك يشكل جريمة وفقا لاحكام قانون العقوبات العراقي.
إذ يعاقب كل من اخبر كذبا احدى السلطات القضائية او الادارية عن جريمة يعلم انها لم تقع او اخبر احدى السلطات المذكورة بسوء نية ارتكاب شخص جريمة مع علمه بكذب اخباره او اختلق ادلة مادية على ارتكاب شخص جريمة خلاف الواقع او تسبب باتخاذ اجراءات قانونية ضد شخص يعلم براءته و كل من اخبر السلطات المختصة بأمور يعلم بأنها كاذبة عن جريمة وقعت وان المشرع العراقي قد استهدف من تجريم الاخبار الكاذب حماية واعتبار الناس في مواجهة اساءة استعمال الحق في التبيلغ عن الجرائم والمكفولة للناس جميعا في مواجهة الشكاوى الكيدية و من مظاهر التعسف في مجال اجراءات الاثبات التعسف في توجيه اليمين الحاسمة واساءة استعمال حق تاجيل الدعوى او تقديم طلبات الغرض منها تمديد أجل النزاع او تكرار الطلبات، حتى تظل الدعوى معلقة امام القضاء او التعسف في استعمال طرق الطعن في الاحكام وان الضرورة تقتضي تعديل قانون المرافعات المدنية وقانون اصول المحاكمات الجزائية من خلال الزام جميع اطراف الدعوى بالتزام حسن النية في تقديم الادلة و مراعاة اصول القانون عند تقديم الادلة ووضع غرامات بحق من يتعسف باستعمال حق التقاضي.