الذاتُ بوصفها محوراً للمعرفة

ثقافة 2020/09/08
...

محمد صابر عبيد
 
تتكشّف الذات باستمرار عن طاقات لا متناهية تغذّي صورتها بما يجب من التفاعل والتلاقي والتعاطي مع المحيط والماحول، وما أن يحضر دال "الذات" حتّى يحضر مباشرة دال "الموضوع" في مواجهة تقليدية جدليّة بين الدالين، وهذه العلاقة الجدليّة بين الذات والموضوع هي علاقة تفاعليّة تكشف عن طبيعة الدائرة التي تحيط بهما وهي علاقة الداخل والخارج، فالداخل "ذاتيّ" والخارج "موضوعيّ"، ولا يمكن فهم أحدهما على النحو المطلوب من دون فهم الآخر على أساس ديناميّة هذه العلاقة وجدليّتها، فلا ذات بلا موضوع ولا موضوع بلا ذات كي تكتمل الصورة ويبدأ الحراك المفهوميّ بالعمل.
يمكن النظر إلى الذات بوصفها محور المعرفة وجوهرها، ومعاينة الموضوع بوصفه المحيط الحارس والضروريّ لمحور المعرفة، وإذ كان المحور المعرفيّ للذات متعلّقاً على نحو شديد الأهميّة بقدرة هذه الذات على تمثيل ما يصلها من كثافة المعرفة، فإنّ الموضوع يوفّر للذات رافداً اجتماعياً ونفسياً وثقافياً يسهم عميقاً في إيصال هذا التمثيل إلى أعلى درجات التحقّق والبرهان، ولا معنى للذات على هذا النحو من دون السند المرجعيّ الموضوعيّ المغذّي والمؤثّر والفاعل، مثلما لا قيمة للموضوع من غير حضور الذات في ساحة الفعل والإنجاز، وطالما أنّها ثنائية عاملة وفاعلة في تاريخ المعرفة البشريّة على أنحاء مختلفة في الحضارات كلّها تقريباً، فإنّها لا بدّ أن تحظى بعناية العلوم جميعاً بما تحيل عليه من قضايا وظواهر وأنشطة متعدّدة.
يمكن معاينة هذه الثنائيّة الأصيلة في الثقافة الإنسانيّة في سياق ثلاثة أنماط تقوم ستراتيجيّة العلاقة بين الطرفين على أساسها، وذلك بحسب النظريّة أو الفلسفة التي تشتغل على هذه الثنائيّة مفهوماً ورؤيةً وإجراءً، فلكلّ نظريّة أو فلسفة رؤية معيّنة لهذه العلاقة تتأسّس على وفقها ثنائيّة الثابت والمتغيّر، بما يحقّق البرهنة النظريّة أو الفلسفيّة على الفروض المسبقة للنظرية أو الفلسفة، ويمكن عرض هذه الأنماط على نحو ينسجم مع تقدّمِ نمطٍ على آخر إجرائيّاً داخل معيار التردّد والحضور والتوافق والاستخدام، وبوسعنا على هذا الأساس أن نتناول النمط الأول المتعلّق بفكرة أنّ الذات متحرّكة والموضوع ثابت، وهو ما يعزّز أهميّة الذات على الموضوع إذ تتجلّى الذات هنا بوصفها "جوهراً" والموضوع "عَرْضاً" بالمعنى الفلسفيّ التقليديّ، ويأخذ الموضوع هنا كنهه وقيمته من حركيّة الذات وتوجّهاتها ومقاصدها وأعرافها، لينصرف الدرس المعرفيّ في هذه الحال نحو الذات بحثاً وقراءةً وتحليلاً وتأويلاً، ومن ثمّ النظر إلى الموضوع على وفق ما تنتجه دراسة الذات المعمّقة وتفضي إليه من قيم توجّه الموضوع وتستكمل شروطه.
أما النمط الثاني فهو نقيض النمط الأوّل حين تكون الذات ثابتة والموضوع متغيّر، والرؤية التي يقوم عليها هذا النمط تعود إلى فلسفة معيّنة تجعل من الموضوع هو المركز الكونيّ في فهم العالم، وما الذات الواحدة أو الذوات المجموعة سوى حلقات دائرية تدور حول الموضوع وتكتسب أهميّتها وقيمتها منه، فالموضوع على هذا النحو هو مصدر المعرفة وليس أمام الذات سوى النهل من هذه المعرفة وتموين جزيئاتها الذاتيّة بفيضها، وثمّة نمط ثالث يمكن استنتاجه في هذه المعادلة الثلاثيّة المتحوّلة من نمط إلى نمط آخر بحسب الفضاء الاحتماليّ المثلّث، وهو أن تكون الذات والموضوع متغيّرين، وتغيير أحدهما يأتي استناداً للتغيير المضطرد في الآخر، ويدور كلاهما في دوامة من الحراك التغييريّ المتناوب من دون الإحالة على مركز ومحيط.
ولا يمكن طبعاً أن يكون كلاهما ثابتاً في احتمالٍ نظريّ رابعٍ لأنّ العلاقة بذلك تنتهي وتموت الثنائيّة، ويعود كلّ مفهوم منهما إلى مِحجرهِ المرجعيّ والمعجميّ وتتفكّك على هذا الأساس المعرفة المرجوّة من نتائج هذه العلاقة، لأنّ الدالّ في كلّ منهما سيتحدّد بمدلوله القارّ في حاضنة المعجم ويتحدّد مستوى المعرفة في كلّ منهما على هذا النحو.
يصوّر كادامير في كتابه "الحقيقة والمنهج" طبيعة العلاقة بين الذات والمعرفة في العلوم الإنسانيّة على نحوٍ خاصّ بقوله:"المعرفة في العلوم الإنسانيّة لها دوماً علاقة بمعرفة الذات"، فالمعرفة هنا بحسب كادامير هي الموضوع نفسه، وهو موضوع مركّب في الأحوال كلّها، تبدأ العلاقة بـ"معرفة" الذات" في كونها الدلاليّ الخاصّ بها بعيداً عن أيّة مقاربات خارجيّة، ومن ثمّ تنتقل إجراءات المعرفة وسياقاتها نحو الحلقات الأوسع والأكثر انفتاحاً في مساحة الموضوع/المعرفة، مثلما تشير أساساً العلامة العنوانيّة لكتاب كادامير "الحقيقة والمنهج" وهي تمضي في سبيل تكامل علائقيّ بين الطرفين، الحقيقة التي هي المقصد والهدف والغاية، والمنهج الذي هو الوسيلة المعرفيّة والعلميّة لبلوغ الغاية والوصول إلى فضاء المقصد، انطلاقاً عن عتبة الذات وانتهاءً بانفتاحات الموضوع وتجلّياته التي لا حدود لها في هذا المضمار.
الذات المبدِعة والذات القارئة ذاتان متوازيتان متناغمتان تحقّق الواحدة منهما نموذجها بدلالة الأخرى، ولا سبيل إلى إحداهما من غير الأخرى بحكم وجود النصّ الذي يحقّق جوهر التواصل والتفاعل والتصاهر بينهما، بما يتحوّل بناءً على هذه العلاقة الجدليّة بينهما إلى خطاب، فالذات المبدِعة إنّما تسلّم إنتاجها العبقريّ للذات القارئة في سبيل إيجاد نوع الخطاب الممكن والمتاح بوصفه المناسبة الحتميّة للتواصل واللقاء بينهما، فالخطاب هو الجامع بين ذات مبدِعة منتِجة للنصّ وذات قارئه مستهلكة للنصّ.
إذ يكون الخطابُ على هذا النحو الجسرَ الذي تعبر على سطحه فيوض القراءة باتجاه حقول النصّ، أو تموّجات النصّ باتجاه فضول القارئ، غائماً بعض الشيء لا يتمتّع بالوضوح المطلوب الذي يمكن أن يحقّق المساواة المتخيّلة بين عبقريّة الإنتاج النصيّ وحرارة تجربة إعادة الإنتاج النصيّ، على النحو الذي يترك طبقة ملتبسة يتعذّر فكّها بين حدود النصّ وحدود القراءة تحتفظ بوعود ثانية لقرّاء قادمين، حتّى تتمّ عملية فتح مغاليق النصّ بين يديّ القراءة المتكرّرة والمتنوّعة بما يؤسّس لفضاء الخطاب الموعود، الذي ينفتح على علاقة الذات المبدِعة بالذات القارِئة في ظلّ حضور "الخطاب" بحلّته المعرفيّة، كي يكون "الموضوع" الجامع بين ذاتَين، أو شطرين لذاتٍ واحدةٍ تلتحم في منطقة القراءة والتلقّي حول معرفة نصيّة تسمّى "الخطاب"، وينبغي أن يكون لهذا الخطاب مقصد في السبيل نحو مقاربة الحقيقة، وينطوي على رؤية تحتاج إلى منهج لتفكيكها وتحليل مكوناتها بين حراك ديناميّ يدور في فلك الذات والموضوع.