الترجمة والفعل النقدي: نظام التفاهة مثالاً
ثقافة
2020/09/09
+A
-A
د. نادية هناوي
قد يفهم من سياق القول المأثور (خير جليس في الزمان كتاب) أن أي كتاب هو الذي يجالس القارئ الذي سيتجانس معه حين يجالسه. وكأن الكتاب هو الفاعل الذي يختار قارئه والقارئ هو المنفعل الذي يتلقى الاختيار، بل الأصل أن القارئ هو الذي يختار الكتاب بحسب جدواه، وإلا أضاع وقته وجهده، والسؤال كيف يحسن القارئ اختيار الكتاب الذي يصدق عليه الوصف بأنه خير جليس ليكون هو المواسي والمؤنس الذي يضيف وينير ويطرب ويسامر ويبوح ويهمس؟
إن أذواق القراء واهتماماتهم تتنوع وتتنافر وهي من السعة ما لا يمكن الإحاطة بها، بيد أن ما هو مقدور عليه من لدن أي قارئ هو أن يسأل نفسه ما الكتاب الذي يبحث عنه ؟ وهل يطمئن إلى العنوان ليرتكن إليه وحده في عملية الاختيار؟.
لا شك أن حسن الاختيار يتوقف على حذاقة القارئ التي تجعله واعياً لما يقرأ، وبالوعي وحده يحسن القارئ الحكم على الكتاب عارفا أنه سيكون مجدياً له، يخفف عنه أمراً معيناً أو يحل له إشكالية ما أو يضيف إلى معارفه شيئاً جديداً ليغدو الجليس الذي هو خير من أي جليس آخر. وبالمقابل يتوجب على القارئ أن يحذر من ثلاثة أصناف
من الكتب :
1 - صنف يدلس مستواه الهابط بمقدمات يكتبها ذوو الدربة تعظيما لصاحب الكتاب ومداراة بالكلمات المنمقة والطنانة على النواقص التي فيه.
2 - صنف يحمل عنوانات براقة هي بمثابة أفخاخ تصطاد القارئ.
3 - صنف مترجم يقدم له بمقدمات طويلة لا تخلو من انبهار ومبالغة ومغالاة.
وستكون النقطة الأخيرة هي موضع اهتمامنا في هذا المقال، فالمعروف أن المترجم أيا كانت براعته وحذاقته في اللغتين المترجم منها والمترجم إليها يظل مؤلفاً ثانياً يعيد إنتاج ما أنتجه المؤلف الأول.
وهذه العملية تنتهي بمجرد انتهائه من ترجمة النص الأصل، بيد أن الملاحظ على أغلب المترجمين العرب أن دور المؤلف يتلبسهم فيضعون مقدمات مطولة يشرحون فيها ما هو موجود في المتن وقد يقتبسون نصوصا معينة من باب أن تبسيط المسألة سيهون عليه المتن فلا يتفاجأ بما فيه من مادة علمية او ادبية، مع أنهم قد يغالون في تقدير قيمة ما يترجمون وقد يدلسون حقيقته مدعين له الجدة والأصالة اللتين لا تتوفران فيه. والمفروض أن الترجمة فعل إبداعي ينتهي بانتهاء الفعل الترجمي أو ما بعد الترجمي، للأسباب الآتية:
1 - إن وضع مقدمة ترجمية طويلة تدلل على انبهار المترجم وإعجابه بما ترجم. ونادرا ما نجد مترجما لا ينبهر بالنص الذي ترجمه فيظهر عيوبه وينتقد منهجه أو يفند بعض توجهاته.
2 - إن استباق المترجم للمتن يضعه في موضع المبشر بطروحات المؤلف وأفكاره نائبا عنه. وليست هذه المسألة مأمونة الجانب دائما فقد يخطئ المترجم في تقدير قيمة الكتاب وقيمة ما قام به صاحبه. ولو كانت للمترجم آراء حوله فيمكن له أن يضمنها حاشية المتن المترجم وبحسب ورود
مواضعها فيه.
3 - إن المقدمات الطويلة التي تستعرض الكتاب المترجم تضيع على القارئ أداء دوره في الاستجابة والاستقبال ولا تسمح له بأداء دوره في استدعاء مرجعياته والإفادة مما هضمه في ذهنه من تراكمات قرائية.
4 - الفرق كبير بين كتاب مترجم تفتح صفحته الداخلية، فيواجهك المؤلف الأصل وبين كتاب تفتح صفحته الداخلية فيواجهك المترجم نائباً عن المؤلف الذي لن تلتقي به إلا بعد أن تقلب عشرات الصفحات لتجده قابعاً خلف المترجم. وبدلا من أن يكون المترجم واسطة للتواصل بين المؤلف والقارئ يصبح حكما مهيمنا عليهما معاً.
5 - ان التقديم إذا كان محصوراً في فعل الترجمة لمصطلح أو لفظة أو ترميز أو حاشية فذلك نافع للقارئ لأنه بمثابة هداية له في القراءة وبخلاف ذلك يصبح أمر التقديم خارج إطار الفعل الترجمي استغلالا واحتكارا واشتهارا على حساب جهد المؤلف الحقيقي.
الضرورة المعرفية
لا يخفى أن الترجمة تعكس وعي المترجم في اختيار كتاب تفرض الضرورة المعرفية أن يترجم إلى اللغة العربية. وكم من روايات وأعمال نقدية خالدة أعيدت ترجمتها وطبعها أكثر من مرة.
وبالمقابل فإن ترجمة كتب لا تقول إلا مُعاد اولا تقدم شيئا أصيلا وتحمل أهدافا مبطنة ستبدو كفقاعة الماء، التي سرعان ما ترتفع تختفي فجأة ولن يسأل عنها بعد ذلك أحد لسبب بسيط هو عدم غناها.
وسنمثل بكتاب (نظام التفاهة) لمؤلفه الان دونو وبترجمة وتعليق د.مشاعل الهاجري والصادر مطلع هذا 2020، وقد قدمت له المترجمة بمقدمة مطولة واطرائية أثقلت بها متن الكتاب وبدت إشاداتها اللا اعتيادية به بمثابة ترويج سيكتشف القارئ مقدار مبالغتها فيه، غاضة الطرف عما فيه من تشنج وانتقاص وتهويمات وإحصاءات
غير موثقة.
ونبدأ من العنوان الذي فيه جمعت المترجمة بين التفاهة والنظام كمقابل للعنوان الأصل الذي ثبت على الغلاف الامامي للكتاب باللغة الفرنسية، مع أن الكتاب مترجم عن اللغة الانجليزية. أما ما ذكرته المترجمة عن الاختلاف بين كلمتي medicrity وتعني الشخص التافه وكلمة mediocrarcy التي تعني النظام الاجتماعي؛ فلم يتبين كيف تم الجمع بين المعنيين ليكونا( نظام التفاهة)؟ وهي تعلم بالتأكيد أن أهم ما ينبغي توفره في ترجمة العنوانات عدم مخالفتها المتن المعنون متماشية مع مقتضى مادته.
جماعة متنفذة
إذا كان الان دونو قد حدد الإنسان التافه بأنه الذي يدعمه التافهون فيرفع كل منهم الآخر لتقع السلطة بيدهم كجماعة متنفذة وقوية؛ فهذا يعني أن التفاهة هي المكر والدسيسة والدهاء والعمالة والخسة، التي بها يصل الوصوليون إلى ما يريدونه بسهولة.
وغالبا ما يميل دونو في اطلاق أحكامه الأخلاقية إلى التعميم، من ذلك وصفه عمل الناس بالمجموع تافها ومثاله على ذلك بائع الصحف الذي يبيع ولا يقرأ، لكن قيمة العمل تكمن في أهدافه وهدف البائع حتما هو غير هدف المشتري، لأن الأول يريد البيع والثاني يبتغي القراءة.
أما رؤيته للمواهب بوصفها وظائف وأن كل وظيفة صارت وسيلة فليست عامة أيضا، فالإنسان الذي له قيمه الأصيلة لا يقبل أن يتخذ موهبته أداة لتنفيذ رغائبه بل هي لوحدها غايته.
ولا يمتلك الان دونو فرضية نظرية في هذا الموضوع، بها يثبت آراءه، وهو ما كان مطلوباً من المترجمة التأشير اليه أو على الأقل ترك الأمر للقارئ ليكتشفه لا أن تقوم بتعظيم الكتاب وهو بلا أطروحة نظرية فريدة ومبتكرة، بها يكون المؤلف موضوعيا في تقديم مادة كتابه، لا أن يطلق أحكاما انطباعية يشن عبرها هجوما على العموم منتقدا اخلاقيات العمل ومقاييس الكفاءة والموهبة مزدريا الحياة ومستنكرا الواقع الذي هو في نظره سائب بلا نموذج أو مثال.
باحثون تافهون
لا خلاف أن ذوي المواهب الأدنى والكفاءة الأقل صاروا غالبين لذوي المواهب والكفاءات الاصيلة، لكن السبب ليست تفاهة المجموع؛ بل هي الظروف التي سمحت للوصوليين والمسلكيين أن يحققوا مآربهم (كباحثين تافهين لا يفكرون وهم يفوضون قواهم الفكرية إلى سلطات أعلى تملي عليهم ستراتيجياتهم ) الكتاب، ص76.
وإذ يحل الاختلاق محل الأصالة والتظاهر محل الاخلاص فليس السبب التفاهة؛ بل هو المكر والخديعة والتدليس الذي به تنال الأستاذية مثلا كفهلوة ومغالبة بها يخضع المدلسون( لطقوس رهيبة هي لعبة ودورة يتعلمون فيها كيف يخدعون بعضهم بعضا كجزء من علاقاتهم الشخصية) الكتاب، ص80 .
من هنا تغدو التفاهة اللا نظام والعشوائية التي تجعل كل ما هو معتاد وروتيني سببا في امتلاك ناصية النجاح، وتحت طائلة اللا نظام تصبح آراء الان دونو عبارة عن تصورات شخصية مزاجية حادة تثبط الهمم وتشيع الاحباط والتواني عن العمل بلا أدنى فرضية نقدية. وسيغدو كبيرا على المؤلف أن تضع المترجمة له هذا التقديم
وذاك العنوان.
ولو صدق المؤلف في أمثلته التي يستلها من الواقع الجامعي الاوروبي مدللا عليها بالأرقام والشواهد الموثقة، لكنا أسدلنا الستار على واقعنا الجامعي ولرجعنا إلى عصر الزراعة وما قبلها. وكثيرة هي الآراء المزاجية والاطلاقية التي تعمم بشكل جزافي لا يخلو من نوايا مبطنة باستثناء آراء انتقد فيها الواقع الجامعي المتقدم في أوروبا وأميركا كقوله: ( التفاهة تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الاغفاء، بدلا من التفكير في النظر الى ما هو غير معقول وكأنه حتمي والى ما هو مقيت وكأنه
ضروري) ص85 .
إن ما يعتمده الان دونو من لغة متهكمة ومتشنجة ونبرة معيارية صارمة وما يراه من خراب يعم الحياة على اختلاف عوالمها (متقدمة وصناعية وعالم ثالث وعالم فقير) يجعل القارئ عموما والعربي تحديدا محبطا ومتشائما وهو يرى العالم في كليته سيئا ومحنطا وعاطلا عن العطاء والإبداع، واذا كان هذا حال الغربيين فكيف بعد ذلك يكون حال العرب الذين يسير التغيير في بلدانهم سير
السلحفاة؟!.