عسر الولادة !!

الصفحة الاخيرة 2019/01/08
...

حسن العاني
في قواميس اللغات العالمية جميعها، ومنها العربية، تخرج المفردة الواحدة الى عدة معانٍ متباينة، ومع تطور الحياة، وخاصة بعد الثورة الصناعية وصولاً الى عامنا المبارك هذا اتسعت رقعة المعاني بعيداً عن اصلها القاموسي، لأن الاشتقاقات والاستعارات وتشابه الوظائف تسمح بالاتساع الى حد كبير، ومن هنا نجد ان مفردات على غرار (تنفيس، ثورة، مقارنة، شفافية، ازدواجية، مرجعية، جينات...الخ) يمكن أن تجري على لسان عالم النفس والسياسي والميكانيكي والعسكري والاديب ورجل الدين... ولا بد ان مثل هذه الحالة قد خففت كثيراً من مشكلات البحث عن مصطلحات او مفردات جديدة في عالمنا الحديث والمعاصر الذي لا تمر دقيقة واحدة عليه الا وظهر اختراع او اكتشاف أو ابتكار او تطوير لمعلومة قديمة او تصويب لها، وبالتأكيد فان اللغة ومفرداتها غير قادرة على المواكبة، وهكذا أصبح العرف اللغوي يتقبل استعمال مفردة (التنفيس) في مجال الصناعة مثلاً وكذلك في مجال السياسة وعلم النفس والاقتصاد...
واحدة من مئات المفردات التي احتلت مساحة عريضة جداً في كثرة معانيها ودلالاتها بصورة لافتة للنظر هي كلمة (عسر)، ففي القاموس وحده وقفتُ على أكثر من عشرين معنى لها، أغلبها لم تعد من المألوف او المتداول، وربما كان المعنى الشائع جداً لها، والذي يمكن النظر اليه على أنه الأصل أو الأساس الذي تفرعت عنه المعاني او الاشتقاقات البلاغية الاخرى، هو الذي يذهب الى إن العسر يعني (قلة ذات اليد – أو – الشدة والضيق)، ويلاحظ أن هذه المفردة وردت (12) مرة في القرآن الكريم، وقد غلب على استعمالها معنى الشدة والضيق.
ثمة استعمال آخر نال من الشيوع حظاً عظيماً لا يقل عن معنى الشدة والضيق، ففي القاموس نقرأ العبارة التالية (عسر عليه ما في بطنه: لم يخرج) و(عسرت المرأة: عسر عليها ولادها) وما زالت الناس الى الآن سواء على مستوى اللغة الطبية او على مستوى المعنى الشعبي الدارج يصفون المرأة التي تعاني من صعوبة شديدة في الولادة بأنها (تعسرت)، والتوصيف الطبي، إنها تعاني من (عسر ولادة)، ومعلوم في اللغة إن اليسر هي المفردة التي تقابل العسر بالضد، أي (السهل واليسير والبسيط).
خرج مدلول المرأة المتعسرة او التي تعاني من عسر الولادة، من إطاره الضيق المحدود الى افاق واسعة واستعمالات لا حصر لها، جميعها تقوم على استعارة بلاغية لمفهوم التعسر او العسرة، فالشاعر الذي يمتلك فكرة القصيدة ولكنها تأبى الولادة، وكذلك اللوحة والتمثال والنحت واللحن أو اي عمل ابداعي في مجالات العلم والادب والفن، حين يأبى الظهور فأن صاحبه يعاني لهذا السبب او ذاك من (عسر ولادة)، يجب أن نقول هذا المصطلح من دون تردد او محاذير، وقد استلهمت السياسة هذا المعنى استلهاماً كبيراً، فعلى قلة الشعوب التي تعاني حكوماتها من تشكيل كابينتها الوزارية، توصف بأنها تعاني من تعسر او عسر ولادة، والحل الوحيد أمامها هو إجراء عملية قيصرية، مع إن هذه العملية محفوفة بالكثير من المخاطر، فقد يتعرض المولود الى تشوهات 
خلقية!!