لقد شهدت السياسة الخارجية العراقية تحولات ديناميكية في المنطقة، إذ يسعى العراق من خلالها إلى التأكيد على نقل صورة إيجابية تتعلق باحترام مصالحه العليا وإبراز هويته القائمة على تأكيد ذاته وضمان استقلاليته وتحكمه في اتباع سلوك سياسي خارجي يتوافق مع الرؤية العليا لصناع القرار الخارجي فيه، كفكرة جاذبة للمجتمع الدولي وذلك من أجل تخفيف حدة التوترات مع محيطه الإقليمي في إنشاء علاقات قائمة على تحقيق المصالح المتبادلة بالاستناد إلى مقاربة جديدة تقوم على سياسة الانفتاح على الجميع في إطار التوجهات والرؤى الجديدة للسياسة الخارجية العراقية، وذلك عبر إدراكها اهمية التنوع في إقامة العلاقات مع غيرها، وبما يتناسب مع مصالح وقدرات العراق الواقعية أي بمعنى حساب الموارد والقدرات وإمكانية الإفادة منها وذلك من خلال تحليل التفاعلات الدولية وسعيه الدائم لتحقيق السلام في المنطقة والتخلص من حالة التقوقع وبناء علاقات مع الجميع على أساس المصالح المشتركة.
وتأتي هذه التحولات في سياسة العراق الخارجية في إطار ستراتيجية الانفتاح الخارجي عبر توسيع جوانب التعاون على مستوى محيط العراق القريب والبعيد وحسب ما وضحه وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين خلال اجتماعه مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي في بغداد في حزيران عام ٢٠٢٠ وحرص العراق في إثبات نفسه كفاعل مستقل في سياق التطورات التي تجري على الساحة الدولية، وإعادة إقامة روابط علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية لضمان فرص جديدة للاقتصاد العراقي، والاستثمار في السوق العراقية، لما تمثله من بيئة خصبة، فضلاً عن ذلك رفع الضغوط عن العراق بفعل التداعيات السلبية لتفشي جائحة وباء كورونا والحصول على امتيازات عبر المساهمة في دعم المؤسسات الصحية العراقية بالتكنولوجيا والأجهزة الحديثة والمستلزمات
الطبية.
إن العراق اليوم يمر بمرحلة تحول على مستوى سياسته الخارجية التي يجب ان تستثمر بالشكل الأمثل في ظل التطورات في المنطقة، فحركة الفاعلين في النظام الدولي بعد جائحة كورونا تتيح للعراق ان يتحرر بشكل كبير من حسم امره بالابتعاد كلياً عن سياسة المحاور والانحياز لطرف على حساب طرف آخر، وهذا ما يؤدي الى البدء في بناء سياسة جديدة تتناسب مع تلك المتغيرات، فالانعتاق الجغرافي يدفع بالدولة العراقية الى تبني ستراتيجية عليا على المستوى السياسي، وذلك عبر تأكيد الرؤية التي يعتنقها صانع القرار السياسي الخارجي العراقي والتي تحافظ على استقلالية قراره بعيداً عن التأثير او الهيمنة لطرف إقليمي او دولي، وهو ما يؤدي من ثم الى انتهاج سياسة خارجية عراقية فاعلة من دون انقياد لأي من المحاور التي ترى في العراق ساحة لتصارعها. ان العراق مؤهل بحكم الموقع الجغرافي الى استثمار الاضطرابات وتعدد الأزمات في المنطقة، وذلك عبر إنتاج خطاب سياسي موحد يعكس رؤاه وافكاره المراد تطبيقها في المحيط الخارجي بحيث يكون العراق هو محور اهتمام القوى الإقليمية والدولية. إن العراق يتأثر بتطورات الأوضاع في المنطقة سواء سلباً او ايجاباً بفعل أنه جزء من منظومة إقليمية تعمل وفقاً لمصالح واهداف تسعى اليها تلك الدول وليست بالضرورة ان تكون متوافقة مع رؤية العراق وتتناسب مع اهدافه وتطلعاته الى تحقيقها، بل قد تكون متشابكة او متباينة في بعضها. وعلى العراق ان يضع أساسا لسياسته الخارجية، وذلك عبر الانفتاح على دول المحيط الإقليمي وبالخصوص العربي منها، لأنها أدركت بالفعل أن انعزال العراق قد اضرها بشكل كبير جداً، ولذلك فإن الأشهر الماضية قد شهدت حراكاً سياسياً من أجل إعادة العراق الى محيطه العربي، فخلال المرحلة السابقة لم يكن هناك دور كبير للدول العربية في العراق وهي التي ادركت اهميته كبلد مؤثر في صناعة القرار العربي والإقليمي وذلك بفضل إيمانها بقدرة البلد على عودته لممارسة الدور المؤمل منه عربياً وإقليمياً، فالزيارات الاخيرة للمسؤولين العرب تدلل على ذلك، وهذا ما يؤهله للعب أدوار تتناسب مع حجم إمكانياته ليكون عنصراً فاعلاً في حل الأزمات التي تعاني منها المنطقة.
* اكاديمي وباحث في الشأن السياسي