نكهة البخار

ثقافة 2020/09/14
...

راسم المرواني
- ماذا تبيع؟
قالت الطفلة الصغيرة ذلك، وهي منتصبة على أطراف أصابع قدميها المتشنجتين، متمنية أن تمد ألف رقبة لتصل بها إلى مكان تخترق فيه حافة العربة التي تربض بشموخ وكبرياء، كي ترى ما يفور بداخل هذا القدر الغاطس في منتصفها، تاركاً وراءهُ حافة لامعة تدل عليه.. وبخاراً أبيضَ تنبعث منه رائحة سلق الحمّص المعفّر بالبهار متحدياً برد الصباحات الشتوية
- ماذا تبيع؟ ها ؟
العربة عالية.. لم تستطع الطفلة إن تتجاوز حافة العربة بأكثر من عينيها السوداوين الذابلتين وانفها المحمّر المتلصّص .. لا فائدة .. أرخت ساقيها لتعود إلى طولها المنهك.. والذي حرمها من لذة رؤية ما يتقلّب بداخل هذه الحفرة الوقحة التي ما زالت تستفز لعابها
- أبيع (لَبْلَبيْ*)
قال البائع ذلك.. وهو يمسح وجه العربة بقطعة قماش التصقت بها بقايا البهار الأصفر المتيبّس منذ مساء الأمس ... كانت الطفلة في طريقها الى المدرسة ... ملابسها وحقيبتها وشرائط شعرها، كل ذلك كان ينم عن عدم تناولها وجبة الإفطار
- بكم تبيع؟
لم يبدِ البائع اهتماماً ... مازال ينضد (الكاسات) ويمسح وجه العربة بنشاط غبي 
استدارت الطفلة .. خطت نحو مدرستها خطوات سريعة .. ولكنها توقفت وعادت أدراجها بخطوات قلقة لتعيد السؤال المتوسل نفسه على هذا البائع الذي أخذ يهش عليها بطاردة الذباب
- اذهبي .. ألا تسمعين الجرس؟
صمتت الطفلة للحظة .. البرد يستفز شهوتها لهذا القدر الدافئ .. وصوت الجرس يرن في أذنها محاولاً استدراجها إلى الوراء .. لم تكن تعرف أنها جائعة .. تدلت ضفيرتاها على جانبي وجهها أخذتا تتأرجحان عندما انحنت ووضعت حقيبتها على الأرض ومدت يدها فيها .. أخرجت يدها من الحقيبة قابضة على قلم رصاص لم يبرَ بعد .. وبحركة بطيئة مثقلة بالخوف، مدت يدها إلى البائع
- خذا هذا القلم الجديد ... واعطني
قطّبَ البائع
- قلت لك اذهبي
وهبط بجسمه إلى أسفل العربة ليؤجج النار تحت القدر 
حملت الطفلة حقيبتها التي ما زالت مفتوحة ... وركضت باتجاه المدرسة ... الجرس يرن ... استطاعت أن تعبر بوابة المدرسة العالية .. وتخترق الصفوف لتقف بين زميلاتها اللائي نظرن إليها بامتهان
 المديرة تتوسط ساحة المدرسة قريباً من سارية العلم الذي يتسلق السارية مترنحاً بكف موجات الهواء الباردة، صاحت المديرة بصوتٍ عالٍ وبنبرة عسكرية توحي بأن الأعداء على مشارف المدينة
- طالبات ..! واحد .. اثنان .. ثلاثة
وتعالت الأصوات مرتجفة، تردد نشيد رفعة العلم … 
بينما راحت الطفلة تسرح بأفكارها خارج الأسوار .. هناك قريباً من العربة والبخار ورائحة البهار .. وأخذت تمضغ حبات الحمص بشراهة .. وأحست للحظة أن حبات الحمص ما زالت قوية، وأن طعم الـ (لبلبي) ليس لذيذاً كما كانت تتوقع .. فهمست لنفسها 
- اللعنة على (أبو اللبلبي) ...لم يُحسنْ سلق حبات الحمّص باتقان
وعندما انتهى النشيد صفقت الطالبات بحرارة 
فانتبهت الطفلة.. لتجد نفسها وهي تقضم قلم الرصاص الذي مازال في يدها