د. قيس العزاوي
الهيمنة ككل محاولات التنمر الإقليمي والدولي هي غواية ممارسة النفوذ على الغير بالتسلل الناعم أو بالقوة الغاشمة.. وقد شهدنا في السنوات القليلة الماضية تطوراً جيو سياسي تركياً ملفتاً للنظر ومقلقاً في الوقت نفسه، فالبلد بات يتحول من النفوذ الناعم المتمثل بالمشاريع الإنشائيَّة والمقاولات وغزو الأسواق وتعظيم حجم التبادلات التجارية الى استعراض القوة وتشييد القواعد العسكريَّة في ست دول عربيَّة (العراق، سوريا، ليبيا، قطر، السودان والصومال) وتحريك القوات خارج الحدود لفرض النفوذ المسلح.
تأسست الجمهورية التركية على أنقاض السلطنة العثمانيَّة عام 1923، وشيدت أسسها النظرية على المبدأ الاتاتوركي «سلام في الداخل وسلام في الخارج»، وأوكل اتاتورك للجيش مهمة حماية الجمهورية وصيانة علمانية الدولة، وهو ما سارت عليه الحكومات التركية المتعاقبة، وأوصله منظرو حزب العدالة والتنمية عند توليهم السلطة عام 2002 من خلال طروحات أحمد داود أغولو الذي عمل على مبدأ يقول بتصفير المشكلات في الداخل والخارج، وهو مبدأ يسير على الطريق الاتاتوركي ذاته. وقد نصح اوغلو بضرورة الالتفاف لما أسماه «الحديقة الخلفيَّة» لتركيا، ويقصد الدول العربية والإسلامية، والعمل على إعادة إحياء النفوذ العثماني. وتلك أفكار ضمنها كتابه «العمق الستراتيجي».
ومع انتقال اوغلو من وزارة الخارجية الى رئاسة الحكومة جرى فرض تنظيراته نفسها ليس على سياسة تركيا الخارجية فحسب، بل على سياسة الحكومة نفسها، وحدث على إثرها تضارب ما بين سياستين: الأولى ناعمة ومتسللة نحو أهدافها ببطء، والثانية متعجلة طموحة ومحتدمة مع الآخرين، وربما أسهم ذلك بتغيير حكومة أوغلو والقطيعة مع تنظيراته، لتبدأ مرحلة جديدة عززت أركانها الانتفاضات العربية وما سمي بالربيع العربي، وسرع وتيرتها الانقلاب العسكري التركي الفاشل عام 2016.
بيد أنَّ المقلق في هذا التحول التركي الجديد هو تعاظم «غواية الهيمنة» بتحويل تركيا الى «قوة كبرى» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – كما يقول سولي أوزيل الأستاذ في جامعة قادر هاس باسطنبول - ووصفَ قادة تركيا هذه القوة بكونها «يتعذّر وقفها»! ونحن إذ نتساءل عما تعنيه جملة «يتعذر وقفها» يمكننا التأكيد على أنَّ «القوة» التركية ماضية بطريقها ومستعدة للتورط في مشاريع إحياء «هوس العثمنة» إقليمياً.. ودليلنا أنَّ هوس «عظمة تركيا» بات يتردد في كل الأرجاء: تركيا تفتتح أعظم مطار في العالم وأنشأت أعظم نفق في العالم وبنت أعظم جسر (جنان قلعة).. وهكذا تتراكم أوهام العظمة، وكأنَّ لا وجود لمشاريع كبرى في الصين واليابان وأميركا وأوروبا وبقية العالم!.
لوقت غير بعيد كانت تركيا من الدول التي يضرب بها المثل في ميدان دور الجيش في تنشيط عمليات التنمية والتجارة والصناعة في البلاد، وقد أتاحت وصاية الجيش على النظام الجمهوري للقوات المسلحة امتيازات اقتصادية كبيرة، فقد أسس الجيش شركات كبرى تجاوز رقم أعمالها مبلغ الـ 20 مليار دولار. وقد لاحظنا من خلال استخدام القوات المسلحة في النشاطات التنموية، الكيفية التي جرى بها توظيف القوات المسلحة لخدمة النفوذ الناعم. لقد نجح هذا التوظيف الى حدٍ بعيد في ميادين التصنيع والإنشاءات والبنى التحتية والتجارة وامتدت تأثيراته خارج الحدود، وأدخل تركيا الى نادي الأغنياء الأقوياء العشرين.
وقد مثلت تركيا في بداية الأمر القوة الإقليمية المعتدلة التي تلجأ لها دول المنطقة، وبدل أنْ يعزز هذا الاتجاه سياسة النفوذ الناعم مع الجيران، أيقظ فيها الطموحات العثمانية، مستفيدة من فوضى الثورات العربية والتفاهمات الستراتيجيَّة مع اسرائيل والعلاقات الاقتصادية مع إيران ومن عضويتها في الحلف الأطلسي ووجود عشرات القواعد العسكرية الأميركيَّة على أراضيها، قامت السياسة التركية الجديدة بإنهاء سياسة «سلام في الداخل وسلام في الخارج» و»تصفير المشكلات»، وحولت نجاحاتها الاقتصادية الى مخالب عسكريَّة.
ومما لا ريب فيه أنَّ ما يجري يضر الى حدٍ بعيد بصورة تركيا التاريخيَّة والإقليمية، فنظامها السياسي يخترق يوماً بعد يوم سيادات عددٍ من الدول العربية بذريعة أمن تركيا القومي، وكأنَّ هذه الخروقات لا تعرض أمننا القومي العربي للخطر! طيلة قرابة مئة عام من عمر الجمهورية التركية لم يعرض جيرانها أمنها القومي للخطر ولكنَّ نظامها اليوم يسعى بذريعة واهية الى فرض نفوذه بسلاح «غواية الهيمنة» وهي غواية تحاول نيل المستحيل ولن
يكتب لها النجاح.