مضى الزمان الذي كانت فيه القبلية أو العشيرة عبارة عن بنية سياسية تخضع بشكل مطلق لشيخها أو زعيمها، بعد تغير الأحوال والظروف والمعطيات الثقافية والسياسية، وبروز الدولة ككيان سياسي واقتصادي واجتماعي، ونظام أداري مؤسساتي قائم على القانون، لقد عمل النظام الملكي في العراق على فصل الريف عن المدينة، ولاسيما ما يتصل بالقضايا والخصومات وما الى ذلك، إذ أنيط لقانون دعاوى العشائر مسؤولية ذلك في الريف، بينما خضعت المدينة للقانون المدني.
وخلال التحولات السياسية بعد ثورة 14 تموز 1958 تغيرت الصورة تماما عندما الغي قانون العشائر، والغي نظام الإقطاع الذي كان سببا في نزوح كثير من الريفيين الى المدن، وأصبح المواطن العراقي في الريف والمدينة يخضع للقانون، كما اثر تفكك الملكية الجماعية للأرض الى ضعف سلطة الشيخ في الريف، حينما تحولت الملكية الجماعية للعشيرة او الملكيات الفردية(الإقطاعي) الى الأسر بعد القضاء على الإقطاع، ما ساهم ذلك
في فك العلاقة الاقتصادية بين الأسر وبنية
العشيرة كبنية سياسية، كذلك انخراط أبناء العشائر في الوظائف العسكرية والمدنية وعلى المستويات
المختلفة.
فلم تعد أوامر الشيخ نافذة بالمطلق على إفراد عشيرته، وبهذا فقدت العشيرة بنيتها السياسية، إلا أنها احتفظت ببنيتها الاجتماعية حتى المرحلة الحالية، لاسيما في مجال الصلات بين الأقارب والالتزامات الاجتماعية في الأفراح والأتراح، كما أن كثيرا من شيوخها أصبحوا اليوم يمثلون وجهاء مجتمع، لاسيما في المدن، كما ظهرت مجموعة كبيرة من الشيوخ الجدد تكاد أن تكون كل أسرة متكونة من ثلاثة أجيال تطلق على وجهيها شيخا، حتى أصبحت مقولة شيوخ بلا عشائر سارية المفعول بين مختلف الأوساط، وقد رافق ذلك ضياع كثير من المقاييس والسنن العشائرية الأصلية، التي كانت في العشيرة عندما كانت تمثل بنية سياسية يحترم قوانينها وأعرافها القاصي والداني من أبناء العشيرة، وقد الحق ذلك الضياع ضررا بسمعة العشيرة وهيبتها، لاسيما في المدن أو بعض المناطق الريفية، حتى أصبح الفعل المشين المرفوض في العرف العشائري الأصلي والذي يعد خارج القيم الأخلاقية لشخصية العشيرة، يمارس بشكل واسع، فالسارق الذي يقتحم منزلا ويقتل في العرف العشائري الأصلي، لا يقام عليه الحد أو الفصل، أصبح الفصل العشائري بشأنه اليوم أمرا شائعا، كما أن محاولة إنتاج العشيرة كبنية سياسية ولاسيما في أوقات ضعف الدولة جعلت مثل هذه المحاولات ضعيفة من حيث الفعل الحقيقي، لاسيما في وقت ضعف الدولة، حتى تطورت هذه الحالات الى مرحلة النزاع العشائري في مناطق مختلفة من عراق، كما أن محاولات إنتاج العشيرة أيضا مرتبطة بمصلحة الدولة في كثير من الأحيان، عندما تحاول تقريب مشايخ العشائر الى جانبها وتوظيفهم في مصلحتها، بل ذهبت الى ابعد من ذلك عندما صنعت زعامات أو مشايخ جديدة اغلبهم يجهل أصول وسنن وأعراف العشائر، دون أن نسمع بصوت مسموع رأي الشيوخ التاريخيين على ما يجري من مواقف وصلت في بعض الأحيان حد المهزلة منتقصة من العشيرة ووظائفها التاريخية.
وخلاصة القول لم تعد للقبيلة أو العشيرة بنية سياسية، إنما هي بقيت تمارس أدوارها الاجتماعية وان محاولات إعادة إنتاج العشيرة بمواصفات جديدة قد باءت بالفشل ولم يتمكن من يتولى هذه المهمة أو المحاولة القفز على الأصول التاريخية والأصلية لدور العشيرة ووظيفتها في نطاقها الجغرافي وعلاقاتها الاجتماعية الداخلية، ما جعل التفكير بإعادة انتاج العشيرة كبنية سياسية يتقاطع مع نظام الدولة الحديثة في محصلته النهائيَّة.