بدءاً لا بد من الإشارة الى أن تداخل الفنون هي عملية حتمية، باعتبار أن كل فن يسعى الى تقديم نص يحرص فيه على استخدام كل محفز جمالي يخدم النص؛ من اجل استقطاب المتلقي واشغال اكبر مساحة ممكنة من اهتمامه.
ومثلما ترتكز العلاقة بين المنتج والمستهلك في الفكر الاقتصادي على عمليتي العرض والطلب، فان العلاقة بين المنتج والمتلقي في الفنّ ايضا ترتكز على عمليتي العرض والطلب ولكن لكل فكر طريقته واساليبه التي يستطيع من خلالها التأثير في المستهلك او المتلقي واجتذابه، واذا كانت هذه العملية في اقتصاديات السوق ترتكز على الكم والنوع فان مرتكزها الاساسي ان لم يكن الاوحد في الفن على العامل النوعي وما يتضمنه من جماليات تشكل قوة جذب تسهم في جعل المنتج اكثر اغراء وادعى للطلب، ومن هنا فإنَّ المُنتِج الفني يعمل على إضفاء كل عوامل الاغراء الممكنة على منتجه؛ لكي يتمكن من لفت نظر المتلقي، و رغم أن لكل فن تقنياته الخاصة التي تتناسب مع طبيعة منتجه، الا أن المشتغلين بتلك الفنون دأبوا على الاستفادة من كل تقنية متاحة تمكنهم من تحسين منتجهم وتقديمه بالصورة التي تثير الرغبة والتفاعل
معه.
وتأسيسا على ما تقدم يمكننا أن نتناول النصوص التي ضمتها مجموعة ( محو مؤجل) للشاعر رزاق الزيدي الصادرة عن دار الينابيع في دمشق عام 2017.
نص الومضة
في نصوص هذه المجموعة تشغل تقنيات (نص الومضة) مساحة واسعة، سواء جاءت على هيئة نص منفرد ام تداخلت مع مجموعة نصوص لتشكل نصا واحدا جامعا، ولكنها تبقى في داخل النص الكبير الجامع أشبه بخرز المسبحة التي تنتظم بواسطة الخيط في هيئة موحدة.
وهذا ما يمكن ان يشابه الى حد ما عملية المونتاج السينمائي، الذي يعمد من خلالها المونتير الى تجميع لقطات متعددة لتشكل مشهدا موحدا يمكن ان يقدم فكرة متكاملة او جزءا من الفكرة التي يريد ان يقدمها للمتلقي.
ولعلنا نلمس ذلك بوضوح في اغلب نصوص المجموعة، وكمثال على ذلك نقرأ هذا النص الذي وضعه تحت عنوان (وارث الندم) يقول: (كانت لي امرأة تساقط فراشات/ لي حديقة من ثلاثة اطفال/ لي جار يسل وجهي صباحا بالتحايا/ كان لي بيت من غناء هدّهُ الرنين/ لي ابة من اصدقاء فرقتهم الاذاعات ومزقتهم الدروب/ الآن ليس لي سواي/ سوى ندم وخوف) ص85.
إن تلك اللقطات الصورية المكثفة التي تشكل منسجمة هيكل النص، تجمع بين ما ترصده مخيلة الشاعر في الحاضر مكانيا وزمانيا، وبين ما ترسب في ذاكرته زمانيا ومكانيا ايضا، ومن هنا فإننا نلحظ ان عملية التداخل بين الوصفي والحواري تأتي منسجمة لتشكل أشبه ما يكون بسيرة حياتية، يجتمع فيها الحزن والسعادة والحب والبغض والحاضر والماضي واليأس والامل. هذه الثنائيات المتضادة هي التي تمنح الحياة حيوتها ونبضها المستمر ومعناها الراسخ، والشاعر بوصفه الجسم الاكثر تحسسا واستشعارا للمحيط، فانه بلا شك سيحول تلك المتناقضات الى صور منسجمة تكمل بعضها بعضا، صور حية تتدفق الحياة في مفاصلها، تجعل القارئ في كثير من الاحيان يشعر بانها تنطوي على الكثير من تفاصيل حياته، بينما تأخذه صور اخرى الى فضاءات التأمل، ومحاولة رسم خطوط موصلة لمرموزاتها، وما يختبأ خلف الكلمات من اشارات تمنح النص عمقا وحيوية وفضاء مفتوحا للرؤى
الجاذبة.
التقاطات صورية
ومما يمكن ان نلحظه بوضوح ايضا، هو توظيفه لتقنية السرد في الكثير من النصوص، وهو ما اسهم في تكوين خيط رابط بين تلك الالتقاطات الصورية التي تفتقد الى الرابط المباشر او المرئي. كما في هذا النص الذي يحمل عنوان (لماذا تركتني وحيدا) يقول في احد
المقاطع:
(البارحة في اعلى المدرّج/ تقمصت فارسا رومانيا/ حين التفتُ/ انكسرتُ/ رأيتُ امهاتنا يغسلن الساحة بالدموع/ احتجاجا على ذبول الوردة/ أدير ظهري للفرح/ وأرسم خارطة على الجدار)
ص68.
ان عملية المونتاج التي استخدمها الشاعر في بعض نصوص هذه المجموعة، جعلت من تلك النصوص ملتقى لتقنيات متعددة، فهي تجمع بين الحوار الاديولوجي والمونولوجي، والوصف والسرد، مشكلة قطعة فنية، تنفتح على فضاءات متعددة، تتيح لكل قارئ ان يقرأها
وفقا لمنظوره المعرفي، ويمنح رمزيتها الافق الذي يتخيله، وفقا لما يمكن ان يستشفه من معطيات انطوى عليها النص.
تقنية جمالية
ويمكن أن نجد مثالا لما اشرنا اليه في نص (كلاب ودودة جدا) وينطبق على نصوص اخرى في المجموعة ايضا يقول الزيدي في هذا النص: (كلابٌ مهذبة/ تتبع السادة المتأنقين/ خطوة/ خطوة/ يضجرون فيزجرونها/ تبتسم بتودد/ كاشفة عن انياب مغطاة بالنيكوتين/ يركلونها../ تطلق اصواتا متداخلة/ يضحكون لها بعهر/ فتنحني بخشوع/ يا لها من كلاب ودودة/ كم تجيد السير في الخلف/ وتحسن الانصياع).
مما لاشك فيه ان توظيف اي تقنية جمالية في النص الابداعي تحتاج الى قدرة ومكنة على جعل ذلك التوظيف يصب في صالح النص وليس عِبْءا ينوء بحمله، فيثقل وقعه على المتلقي، وقد أبان الشاعر رزاق الزيدي في نصوص مجموعته هذه عن تمكن واتقان في عملية توظيفه للتقنيات التي اشرنا لها؛ مما اضفى على نصوصه جماليات متعددة، وقوة ابهار تجعل القارئ منجذبا الى النص، ومتفاعلا معه دون ملل او سأم.