النهم التركي والقدرة على الهضم

آراء 2020/09/20
...

 أمين قمورية 
 
الشهر الماضي، زار رجب طيب أردوغان، ضريح أتاتورك. لم تكن هذه الزيارة من قبيل التكريم، بقدر ما كانت رسالة الى الخارج، بأن تركيا تصحح اليوم ما تعده إجحافاً تاريخياً لحق بها في معاهدتي سيفر ولوزان عندما اضطرت تحت وطأة المتغيرات التي أحدثتها الحرب العالمية الاولى وانتصار الحلفاء فيها، إلى تقديم تنازلات لأنها كانت في الجانب المهزوم في هذه الحرب إلى جانب ألمانيا. 
بعد مئة عام، يرى أردوغان أن تلك الظروف قد تغيرت، وأنه بات في امكان تركيا استعادة ما أُجبرت على التخلي عنه، تركيا تحتل اليوم أجزاء واسعة من الشمال السوري بتوافق دولي، لاسيما من أميركا وروسيا واوروبا، كلٌ لاعتباراته الخاصة. والقوات التركية تتوغل بين الحين والآخر في شمال العراق وتدرس إقامة قواعد دائمة بذريعة ملاحقة «حزب العمال الكردستاني». وتركيا تحتل شمال قبرص وقد باشرت التنقيب عن النفط في شرق المتوسط، من دون اتفاق لا مع قبرص اليونانية ولا مع اليونان أو مصر. تكتفي باتفاق مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج المضطر الى أن يدفع لأنقرة أي مقابل شرط أن تردّ عنه غائلة قوات المشير خليفة حفتر. 
وتركيا موجودة عسكرياً في قلب الخليج عبر القاعدة العسكرية في قطر. وسعت الى اقامة قاعدة بحرية في سواكن السودانية، لكن اسقاط حكم عمر حسن البشير لم يصب في مصلحتها. كما يوجد مستشارون عسكريون أتراك في الصومال، ولم يخف اردوغان وقوفه إلى جانب أذربيجان في نزاعها المتجدد مع أرمينيا. وهو يتقاسم النفوذ مع روسيا من القوقاز إلى ليبيا إلى شمال سوريا. وأي حل سياسي في هذه الدول لن يتم بمعزل عن مراعاة المصالح التركية. تلك هي المعادلة التي فرضها أردوغان، وهو لا يتصرف كمحتل بل كمحرر وبذهنية «الفاتح» على خطى السلطان محمد الثاني الذي فتح القسطنطنية (اسطنبول اليوم) في 29 أيار 1453. وغايته من تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد مجدداً على غير ما أراد أتاتورك عام 1934، محاولة أخرى للظهور مظهر «الفاتح»، الذي يستعيد مجداً غابراً، ويرفع، من وجهة نظره، ظلماً تاريخياً لحق بتركيا قبل مئة عام.
قبل مئة عام، رسم الغرب مصير المنطقة من طريق معاهدة سايكس - بيكو ومن ثم أتبعها بوعد بلفور والانتداب، ومن ثم قامت الدول الوطنية في مرحلة الاستقلال في الاربعينات والخمسينات. ولكن سرعان ما سقطت هذه الدول في قبضة أنظمة استبدادية، بينما كانت اسرائيل تحتل كامل فلسطين، وغرقت الدول المحيطة بها في تطاحنات أهلية أسفرت عن تدميرها. من جديد اطل اردوغان ضيفا طموحا بادوار في الاقليم بعدما اقفلت اوروبا ابوابها في وجهه، لم يحقق انجازاته شرقا وجنوبا بعامل القوة وحده، وإنما أيضاً بعامل الانحلال العربي، الذي كان أساساً في غطرسة إسرائيل. فلماذا لا يفعلها أيضاً ما دام يجد أن الظروف ملائمة لاستعادة أمجاد السلطنة العثمانية، بأقل كلفة سياسية وعسكرية، وبمباركة روسية وغربية؟ 
حتى الآن يبدو صوت إيمانويل ماكرون خافتاً جداً في اعتراضه على التمدد التركي في ليبيا وشرق المتوسط، لماذا لا يعترض ماكرون نفسه على الاحتلال التركي لشمال سوريا؟ إنها المصالح الداخلية ذاتها لدول الغرب، لا تزال تتحكم بمصير المنطقة، وعلى الرغم من تحذيراتها لأنقرة، لا تملك باريس لا الشجاعة ولا الجلد على إشعال صراع جديد في المنطقة. ففي الداخل الفرنسي، بات ما يشبه»الطفل العبقري» في السياسة الفرنسية أقل رؤساء فرنسا شعبية على الإطلاق. وتشهد فرنسا، مثلها مثل غيرها من البلدان الغربية، انقسامًا داخليًّا. لقد ابتليت بجائحة (كوفيد – 19) وصعود اليمين العنيد فيها بقدر ما ابتليت بريطانيا بالانقسام حول بريكسيت.
لا فرنسا وحدها قادرة على لجم الطموح التركي التركي ولا نية ظاهرة لروسيا او ايران بذلك، اما واشنطن الراعي الاكبر، فتترقب وتتريث طالما ان المناكفات والصراعات تضعف الاخرين ولاتضرها او تمس بمصالحها. 
بيد ان حزب العدالة والتنمية الحاكم في انقرة، والذي اطلق حكمه بنظرية «صفر مشاكل» مع الجيران، سرعان ما انقلب على مقولته، وتحولت «صفر مشاكل» في زمن قياسي، الى «جبال من المشاكل» بعدما انهارت الكثير من الروابط التاريخية بين تركيا وجيرانها، وارتفعت المتاريس بينهم. فكثر الاعداء وقل الاصدقاء، وحفزت اضرار هذه السياسات، المتضررين عربا واوروبيين على التوحد، رغم تناقضات مواقفهم من امور عدة. 
النهم التركي واضح لكن معدة انقرة غير قادرة على الهضم لا ماليا ولا اقتصاديا ولا ديبلوماسيا، والصحون التي وضعها اردوغان على مائدة الطعام كثيرة ومتنوعة، وهو بالكاد قادر على التهام صحن واحد منها، فكيف بدزينة صحون ساخنة رصفت معا للأكل دفعة واحدة؟ 
حتى الان نجا أردوغان من تأثيرات لعبة الأمم التي اجتاحت بعض جيرانه ودولا أخرى في الشرق الأوسط. لكن لا شيء يضمن أن تكون هذه اللعبة اشمل واوسع من حدودها الحالية.