من بين جميع الكائنات الموجودة على الأرض وصف الإنسان بأنه الحيوان الوحيد العاقل، على اعتبار أنه يمتلك عقلاً يمكن من خلاله التفكير والاستقراء والاستنتاج واتخاذ القرارات وبناء المجتمعات والبلاد، والحصول على مختلف أنواع المعارف التي يريدها، لكننا ونحن نستعرض الأحداث التي تدور حولنا، والأفكار التي تنتشر كالنار في الهشيم، والمعلومات المغلوطة والمتناقضة التي يتلقفها أناس لم يتعبوا أنفسهم بالتفكير، ندرك حجم الكارثة التي نساق إليها، وعمق الهوة التي نقف على حوافها.
مع الانتشار الكبير والمتسارع للأخبار بفضل الانترنت الذي بات متواجداً بين يدي الصغير والكبير، العالم والجاهل، المميز وغير المميز، وتحول العالم إلى «قرية صغيرة»، واستغلال كثير من الفئات والتنظيمات تلك الوسائل الإلكترونية لنشر أفكارها والترويج لها، حين أصبح العدو صديقاً، والسيئ جيداً، وحرّفت الأخلاق فأصبح الكذب أداة العصر، والنفاق سلاح العلاقات الجديدة، كل ذلك بسبب انتفاء التفكير والتمحيص لدى الكثيرين، وإيقاف العقل عن أداء مهمته الأساسيَّة.
حين قال ابن خلدون: «يجب إعمال العقل في الخبر» لم يكن يدري أننا سنصل إلى زمن يكون فيه العقل آخر ما نستعمله، بتنا نرتاح من التفكير، لدرجة أنّ البعض يقول ليحصل ما يحصل لن أفكر، أو «هكذا مرتاح بلا تفكير».
وعندما تصدى بعض المفكرين والفلاسفة للتراث وطالبوا بإعمال العقل في ما وصل إلينا
منه، قامت عليهم الدنيا ولم تقعد، لأنَّ بقاء البعض مرهون بسجن عقول الرعية، وتلقينهم ما
يردونه، والترويج لمبدأ «أنت لا تفكر نحنا بنفكر عنك».
وأنا هنا أتحدث عن واقع عربي لا غير، إنْ استمر على هذه الحال من قلة الوعي وانعدام التفكير سيغدو من الصعب جداً الخروج من المشكلات التي تورطنا بها، وانتشال ما بقي من حضارة تغنينا بها لأجيال، إننا اليوم عبارة عن شعوب مستهلكة، للقيم والأفكار والأخلاق، لا شيء لدينا نوسم به سوى التبعية لدولة ما أو جماعة أو فرد، قطيع من البشر يساق إلى حتفه، يجوع ويعرى ويقتل وتستلب ثرواته وأرضه وهو قابعٌ في ركنه ينتظر فرجاً من السماء.
يلعب العقل دوراً أساسياً في حماية المجتمع وتحصينه، ومنعه من الانجراف نحو التشتت والانحراف، لذلك كان محط اهتمام العديد من الفلاسفة والمفكرين على اختلاف آرائهم ونظرياتهم، لكن النتيجة كانت ضرورة إعمال العقل وتفعيله، فلا يجب أنْ نأخذ كل ما يقدم لنا وكأنه كلامٌ مقدس لا يناقش، بل من الطبيعي كبشر أنْ نبحث ونتأكد ونقتنع بما يرد من أمور وأخبار، لا بأس من الاستئناس بآراء العالمين المختصين ببعض الأمور، لكنّ بالمقابل لا بدّ أنْ يكون لكل منا موقف لا سيما من الأمور التي تثير جدلاً كبيراً.
ولأنَّ «كل عضو لا يستعمل يضمحل ويموت» فإنّ هذا العقل الذي وضع في رؤوسنا ليس ديكوراً نحمله، بل هو وسيلة لنتلمس من خلاله الصواب والحقيقة، يجب تغذيته وتنميته من خلال الفكر والمعرفة والقراءة.