بين المعطى الحضاري والتقنيات

ثقافة 2020/09/21
...

د.بهنام عطا الله
 
يطالعنا الشاعر (جبّار الكوّاز) بعد إصداره لعدد من المجاميع الشعرية، ابتداءً من العام 1978 (سيدة الفجر) - بورقة اصداره الجديد (ورقة الحلة) وباشتغال يختلف عما سبق من الإصدارات الشعرية في نواحٍ عدة.
لقد افلح الشاعر في عنونة مجموعته الشعرية (ورقة الحلة) بذكاء حاد باعتبار أن العنوان (الثريا): هو المفتاح الأول الذي للمتلقي، إنها لافتة توضح الكثير من مطالب الشاعر، لذلك فإن البحث في العنوان، هو بحث في صميم النص وخاصة إذا كان العنوان دالاً على محتوى ما تحته، فالعنوان اسم والنص مسماه (24)، فـ (ورقة الحلة) نص تتشظى منه نصوص أخرى متسلسلة على وفق موجهات لغوية توظف الرؤية الدلالية للشاعر.
 يتكئ الشاعر جبار الكواز في مجموعته الجديدة، على محمولات المعطى الحضاري المشرق والموروث الشعبي، الذي اتصفت بهما مدينة الحلة، ولا ريب أن الأسماء المضيئة والمشرقة قد نقشت على شكل عناقيد، وزعها الشاعر حول نصه ولونها بألوان متباينة؛ من خلال بنية تعريفية لغوية لرموز حضارية وتاريخية. فلم يترك رمزاً سواء أكان مكانياً أو شخصياً مؤثراً إلا ودوّن عنه، ابتداءً من: باب عشتار الذي هو الباب الأول في مدوّنته النصية فأسد بابل وجنائن المعلقة المعلم البارز للحضارة البابلية وباب الحسين وباب المشهد ثم ساعة البلدية:
(صمتها أفزع الحمام/ فانهمرت أجنحة الضوء/ بشارات اتظلام/ من يقرع ورد الشمس؟/ ويوقد خباز الروح/ سواها في منتصف الأحلام).
ثم ساحات البلدة فأسواقها ومقاهيها وسينماتها وأبوابها وحماماتها ومعالمها التاريخية والحضارية الشاخصة، لقد وزع نصه هذا على ثلاثة فصول هي: البتول، الإشراق، الافول.
كما أن استخدامه لمدونات نثرية من الموروث الشعبي العربي وتضمينات نصية، تعد مصادر لتدعيم النص وتشييد بنيانه في كل فصل من فصوله، مثل: بحار الأنوار ج4 ومعجم البلدان لياقوت الحموي والبابليات للشيخ محمد اليعقوبي. 
إن استخدام الشاعر لملفوظات ورموز محلية وتراثية وشعبية، قد أعطى زخماً كبيراً لقوة نصه، التي تتوحد مع ذاته، إذ تتحاور (أنا) الشاعر مع (الورقة)، فلا تكاد تفصل بين الاثنين، فهل (ورقة الحلة) هي ايضاً ورقة الشاعر وذاكرته، والتي هي جزء من حياته؟:
(كنت أرى الناس/ خشباً مسنودة، ودهاليز معقودة/ وأصفاداً مسدودة وليالي مسفودة/ يا للهول! / أين مضى العمر؟/ وكيف نامت دفقة الزمان؟/ في مسافة الرمال).
فالكتابة عند الشاعر هي إذن: قاعدة الشكل، أو اختيار النطاق الاجتماعي و (التاريخي)، الذي يقرر الكاتب أن يضع ضمنه لغته. وهي بهذا المفهوم، ناتجة من الاختيار الحر الذي يقوم به لوظيفة خطابه (25).
لقد نجح الشاعر، من خلال دراية تكنيكية عالية وتخطيط مسبق، على وفق لعبة لغوية وهندسية شكلية، في تأسيس مهيمنات عالية الدقة ضمن التراكيب اللغوية الداخلة في النص، فضلاً عن تصعيده لآلية المكان والزمان وتغليفهما بأطر فعالة في بنيته، من أجل الارتقاء بهما إلى هدفه الأخير، ألا وهو شحن ذائقة المتلقي بمكثفات عالية من التخييل. وهكذا عمل لم يشتغل عليه سوى القليل من الشعراء، لصعوبة استخدام أدوات الصنعة: الفنية واللغوية وتقنياتهما العالية الدقة، أذكر منهم الشاعر خزعل الماجدي في كتابه (أناشيد اسرافيل)، الذي قسمه على أبواب، وزع بينها نصوصه مستخدماً المثيولوجيا، فضلاً عن مدونات تاريخية ونصوص لشعراء وتعاويذ قديمة، وخطوط وأشكال هندسية مختلفة لها دلالات تاريخية وحضارية معينة تخدم الفكرة الرئيسة
للشاعر. 
إنَّ عملية الحفر اللغوي التي استخدمها الشاعر جبار الكواز في منجمه الشعري، قد أدت إلى اكتشاف ما هو مخفي من التاريخ الحضاري لمدينة الحلة، وخاصة بعد أن استرجع موروثات المدينة وبيئتها الموغلة في القدم، والمكتنزة بالوقائع والأحداث، فكانت نصوصه عبارة عن موجات متتالية من الشظايا تلامـس ذائقة المتلقي، الــذي سيبني من خلالهـا عقد متباينة من التأويلات والمسارات: 
(الداخل فيها خائف/ الخارج منها خائف/ لكأنها قلعة قلق/ لا تمنح صكوك الغفران/ إلا للمجانين)..
في هذه المقالة لا نستطيع أن نعطي لـ (ورقة الحلة) شموليتها، فلا بد من دراسة متكاملة الجوانب بغية الإحاطة بها، لما بذله صانعها من جهود وتقنيات فنية وهندسية لغوية كبيرة مبثوثة في متن النص
وتشعّباته.