تتنوع الفضاءات من حيث حجم الفضاء وسعته وحدوده بتنوّع قابليات الأفراد على ملء هذه الفضاءات وإشغالها على النحو المطلوب، وثمة تكافؤ وتعادل وتساوٍ بين حجم الفضاء وإمكانيّة صاحبه باستثماره وتحقيق أفضل إنجاز داخل حدوده، ففي حين لا يحتاج أصحاب القدرات البسيطة سوى إلى فضاء ضيّق ومحدود جداً كي يتحرّكوا داخله بحرية ونجاح، يحتاج أصحاب القدرات الضخمة فضاءات متحرّكة بلا حدود بوسعها أن تستوعب طاقاتهم الاستثنائيّة وتفتح لهم سبل الإبداع الشاسع، وبين هذا وذاك بالتأكيد هناك ما لا يمكن وضع نهاية له من أنواع الفضاءات لكل فرد من أفراد البشر.
ثمّة مثل شعبيّ تداولناه كثيراً يمكن تفصيحه على النحو الآتي: "على طول غطائك مدَّ ساقيك"، أي أنّك ينبغي أن تعرف حجم الغطاء الذي لديك "فضاء الغطاء"، وحاول أن تفيد منه بالقدر المناسب بالضبط بحيث يغطي ساقيك ويضمن لهما الدفء، ولا تضيع عليك الفرصة حين تمدّ ساقيك أكثر مما يجب فيكون جزء منها خارج الغطاء وتتعرّض للأذى، بمعنى أنّ الغطاء في هذه الحالة هو الفضاء الحامي للساقين بالحدود التي يكون الغطاء عليها لا أقلّ ولا أكثر، ذلك أنّ إدارة الفضاء والتحكّم بممكناته هو السبيل الوحيد للنجاح، وأيّ خلل في هذا التوازن بين الفضاء المتاح وطريقة التعامل معه واستثماره ينعكس سلبياً على مركز الإدارة ويقودها نحو الإخفاق لا محالة.
الفضاء الشاسع يحتاج إلى إدارة مركّبة وخبيرة ذات عقل موسوعيّ قادر على وضع شبكة من الاحتمالات، تبدأ من الأكثر سوءاً إلى الأكثر نجاحاً ولا تستثني أيّ احتمال مهما كان ضئيلاً ولا يستحق النظر، بروحيّة عالية قادرة على تحمّل النتائج السلبيّة في حال وقوع خطأ خارج السيطرة والعمل على معالجته وحصر مضاعفاته في أصغر حيّز ممكن من الفضاء، ودعم عناصر النجاح بأعلى طاقة ممكنة وكأنّه هو القاعدة الأساسيّة التي ينبغي القياس عليها، بحيث تشيع ثقافة النجاح داخل مفاصل الفضاء وتحصل على أعلى درجات التداول والصيرورة، وتتحرّك أدوات المهارة والكفاءة على مساحة الفضاء بروح من الثقة والمرونة والشجاعة والحماسة تتحصّل في ظلّ المعرفة والاطلاع وحسن الأداء
والتصرّف.
تبرز قضية إدارة الفضاء في كثير من المواقف والحالات التي يكون الإنسان فيها معروضاً على نحو ما أمام الآخرين، فحين يكون في مكتبه ضمن عمله اليوميّ بصرف النظر عن طبيعة العمل وحساسيّته المهنيّة سيكون المكتب مجالاً بصرياً لافتاً لنظر الآخر، بمعنى أنّ المكتب هنا هو الفضاء الذي يحتاج إلى إدارة كاملة من صاحبه، تقتضي إدارة الفضاء هنا أنّ تشكيله ينبغي أن يصل إلى درجة توفير الراحة الكاملة لصاحبه، فهو يدير حركة الفضاء وتفاصيله وأدواته وملامحه ومفرداته على نحو يستجيب استجابة مطلقة لأمثل ما يمكن أن يكون، بحيث تتوفّر له طاقة إيجابيّة متكاملة تجعله يؤدي واجباته طيلة ساعات العمل في أعلى درجة من الكفاءة والتوافق الشعوريّ النفسيّ مع الذات، والتعامل مع تفاصيل الفضاء وممكناته وأجوائه وحيثياته بحساسية ذات طبيعة تفاعلية تنهض على ديناميا الفعل وردّ الفعل، وثمة حالة شعريّة يشعر بها صاحب الفضاء في أنّه وصل مع فضائه إلى الحالة المثاليّة لتصبح الإدارة ناجحة.
ليس المقصود طبعاً بالإدارة الناجحة لترتيب الفضاء هو بلوغ حالة من الانضباط الهندسيّ المتقَن لموجودات الفضاء، لأنّ الحالة نسبيّة جداً تتبع طبيعة المزاج الخاصّ الذي يكون عليه صاحب الفضاء ويحتاج من تفاصيل فضائه الاستجابة القصوى لهذا المزاج، فقد تجد مكتب رجل يعمل في الصحافة وهو في أعلى درجات الفوضى، إذ تتكدّس الكتب والمجلات والصحف في كلّ أرجاء الفضاء الذي يحتلّه، لكنّك لا تستطيع أن تعيب عليه ذلك لأنّ ذلك يناسبه ويناسب عمله تماماً، حتى وإن شعرت أنت الناظر القادم من الخارج بانزعاج وقلق تجاه ما ترى، وتستغرب كيف أنّه يمكن أن يعمل في ظلّ هذا الوضع المربك، في حين هو يعرف أين يوجد كلّ ما يحتاجه وسط هذه الفوضى بدقة عجيبة، بل على العكس ينزعج حين يمدّ أحد يده ليرتّب هذه الأشياء المتناثرة لأنّ الفضاء الخاص به سيتهدّد وتضيع ملامحه ويتقوّض تماماً، فهو لا يشعر باكتمال ذاته داخل هذا الفضاء من دون هذا الوضع الذي هو عليه.
لا بدّ من فهم أمر آخر يتعلّق بالفضاء يمكن تسميته "إيقاع الفضاء"، وهو حالة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإدارة الفضاء وبلوغ أعلى مرحلة من مراحل التكامل والصيرورة، فما لم يشعر من يدير حركة الفضاء بالوصول إلى إحساس بإيقاع الفضاء وقد تكامل واستوى وتناغمت أطرافه وأجزاؤه وتفاصيله، فإنّ شيئاً يتعلّق بالإيقاع لا بدّ وأن يكون ناقصاً عند ذلك، ويحتاج إلى إعادة نظر وعمل حتى ينتظم ويجعل الأشياء من حوله تسير على وفق نظام واحد، بمعنى أنّ إيقاع الفضاء هو الميزان الذي يعرف بوساطته أين وصل بناء الفضاء وما مدى نجاح
إدارته.