ثلاث تجارب

آراء 2020/09/22
...

 جواد علي كسار
أبدأُ من العاصمة الماليزية كوالالمبور، إذ يذكر مُطلق النهضة في هذا البلد مهاتير محمد، أنه عندما تسلم الحكم رئيساً للوزراء في العام 1981م، لم تكن الأبنية التي تصل إلى العشرين طابقاً تزيد على الثلاث أو الأربع. لذلك قرّر أنْ تكون بداية نهضة العاصمة، من الأمانة العامة لبلديتها.
لاحظ مهاتير أنَّ من يريد تشييد بناية في العاصمة يحتاج إلى (200) موافقة وإذن وترخيص، كل واحدة منها بثلاث نسخ، ما يجعل تحصيل الرخصة يحتاج إلى سنتين أو أكثر، يتخللها استشراء الرشاوي والفساد.
كانت أول خطوات مهاتير هي مواجهة هذه البيروقراطية، وكسر إجراءاتها وتقليصها ليكون من الممكن انطلاق النهضة العمرانية. وهذا ما حصل فعلاً ليس فقط على مستوى تشييد ناطحات السحاب التي صارت من سمات العاصمة، بل أيضاً إطلاق عملية إنارة شوارع العاصمة، وتنظيفها، وإعادة ترتيب الأسواق الشعبية ورفع التجاوزات عن الأرصفة، من خلال وضع المحال والأكشاك التابعة للبلدية وأمانة العاصمة بخدمة الناس
مُباشرة.
لقد كانت العاصمة هي منطلق ماليزيا الجديدة، وكانت الخدمات البلدية هي الأساس لبداية نهضتها، التي حوّلت ماليزيا اليوم في أنموذجها التنموي والعمراني، إلى واحدٍ من البلدان المتقدمة في جنوب شرق آسيا، تناطح اليابان وتنافس الصين وتتسابق مع كوريا الجنوبية وسنغافورة.
التجربة الثانية هي طهران، فمن يعرف هذه المدينة وعاش تجربة السكن فيها، يعلم أنها كانت من أسوأ عواصم المنطقة في التلوث وتردّي الخدمات البلدية والمواصلات والاختناقات المرورية الفظيعة. لكن عندما وصل هاشمي رفسنجاني إلى الرئاسة عام 1989م، أحدث إنقلاباً هائلاً في التخطيط المديني والمنجز العمراني، بدأ بتجربة متميّزة لأمين العاصمة الأسبق محمد حسين كرباسجي. لقد فرض كرباسجي المحمي سياسياً من رفسنجاني، واجهة موحدة على محال طهران، ونظم التراخيص، وتشدّد في الضرائب والغرامات، وشقّ الطرق والجسور والأنفاق، واستكمل الخطوط الأولى لمترو طهران، بحيث حوّلها خلال ثماني سنوات إلى مدينة تختلف بالكامل عما كانت عليه.
ثمّ كان لأحمدي نجاد عندما كان رئيساً لبلدية طهران، دوره في استكمال المسارات العمرانية لكرباسجي، وهو ما أكسب طهران موقعها الحالي كواحدة من أجمل عواصم المنطقة.
التجربة الثالثة هي التي وضعها بين أيدينا رجب طيب أردوغان، عندما كان أميناً لأسطنبول خلال تسعينيات القرن الماضي، فقد استطاع أنْ يقلب هذه المدينة رأساً على عقب، ويحوّلها بعد باريس إلى ثاني أكبر مدينة سياحيَّة في العالم، تستقبل بخدمات ممتازة ما يزيد على (40) مليون سائح في السنة.
هذه تجارب ثلاث من ماليزيا وإيران وتركيا انطلقت فيها النهضة العمرانية في هذه البلدان من الخدمة البلدية، تحديداً من دور نوعي لأمانة العاصمة، نضعها بين يدي أمين عاصمتنا الجديد، وفي العالم تجارب كثيرة أخرى تستحق المتابعة!