في رؤى النص الجديد ومخاضاتــــــــه.. ثلاثة شعراء يتكلمون

ثقافة 2020/09/23
...

استطلاع: حسن جوان

تفتحت نصوصهم الجديدة في مناخ من الاختلاف البائن وطقوس من العنف والرماد اليومي، وتركة من ايديولوجيات متصارعة جيّلت كتاب الشعر من قبلهم وصبغت نتاجاتهم بلون عاطفي وفكري مائز غير متصالح. ما جعل هؤلاء المتقدمين مثقلين في بعض تجاربهم بحمولة غير شعرية أثقلت النص الادبي فوق ما ناء به من عبء لغوي. شعراء ما بعد 2003 قد لا يشبهون غيرهم من حيث نضجهم المبكر وتمايز رؤاهم المتجاوزة لاسيجة المحلي والقسري، كما انهم ألقوا أثقال اللغة والايديوجيا مسبقا، ليشكلوا نصاً من طينة جديدة أكثر طرواة وانفتاحاً، واستقلالا عن مجاورات كثيرة ووصايا لم يجدوا أنفسهم ملزمين بحملها.

تتصدر اليوم نماذجهم الشعرية الجديدة المنطلقة برهانات أخفّ ثقلاً وأوسع أفقاً، ظاهرة ثقافية جعلتنا نتوقف عند بعض التجارب فيها والتي تمتاز بصوت شبابي لوجه القصيدة العراقية الجديدة، وسط انفتاحات غير مسبوقة في توظيف الميديا، وتجاوز لعقبات النشر الكأداء، واتاحة غير محدودة لمناهل فنية ومعرفية جعلت من اكتناز النص رؤيويا وبصريا مسألة لا يغيب تأثيرها. حول الفضاء الذي تتحرك فيه القصيدة الجديدة، وهل تمتلك معياراً متمايزاً عن سابقاتها في محاكمة شعريتها كنص ينتمي الى جيل ينطلق من تجربة ثقافية محمّلة بأكثر من مزيج وتركة وتحدّ محلي وإنساني، تواصلنا مع ثلاثة شعراء كل يطرح أفقه وقراءته لهذه المرحلة من التجربة والنص المنبثق عنها فكان هذا الاستطلاع:
يقول الشاعر إيهاب شغيدل في معرض تعقيبه على التساؤل الآنف:
(لا شك أن لكل قصيدة يكتبها الشاعر فضاؤها الخاص، لكن يمكن القول إن للنصوص المتجاورة من حيث الزمن مغذياتها المشتركة وأبعادها الإنسانية المشتركة أيضا التي تشكل في ما بعد ما يمكن اعتباره فضاءً جيلياً، بمعنى أنه في كل زمن تبرز جملة من القضايا الإنسانية والاجتماعية وطريق التفكير الشعرية التي تنعكس داخل النصوص مكونة ذلك الحس المشترك للنصوص.
 
نصوص متخلصة
 ‏ويمكن تلخيص ما تتميز فيه النصوص التي تكتب في الوقت الحاضر على أنها نصوص متخلصة من العقد الإيدولوجية التي كانت سائدة في الأجيال السابقة كما أنها رهينة العنف الاجتماعي الموجود فترى أغلب النصوص ذات صوت عالٍ انفعالي يعبر بكثافة عن انفعالية الإنسان الذي يعيش كوابيس العنف اليومي كما أن موضوعتها عادة تنشغل بمعالجة العنف وما يدور حوله.
 كما أنها قصيدة تكرس وقتها من أجل إثبات عدم تشابهها مع الآخرين في زمن لم تعد فيه القصيدة محركاً للجماهير فلا بد لها من أن تخلص لذات الكاتب وتلتصق به، قصيدة يمكن القول عنها تتلصص على حياة الشاعر وتطرق أبواب الهامشي في الحياة، وفي الوقت ذاته تسعى للشهرة الميدوية؛ لذا تراها تشتغل بالحد الأدنى من اللغة، في زمن لم يعد الرهان على النص الطويل مجدياً، صارت القصيدة كثيفة وقصيرة فمنذ سنوات لم اقرأ مجموعة شعرية جديدة تتكون من قصيدة واحدة طويلة إلا ما فاتني.
فضلا عن أن النص الشعري أصبح مجاوراً للسينما والكتب المعرفية التي لم تكن متوفرة بهذه الكثافة فيما سبق، وهذه المجاورة أعطت النص الشعري بعض التقنيات منها مثلا تجد هنا قصيدة على اللقطة أو قصيدة المشهدية التي توظف الحوار بشكل سينمائي.
من شأن تلك الملامح أن تدل على أن الشعر مادة تتغير مع الزمن مثله مثل أي اشتغال إنساني حيوي وحر آخر، كما أن وظيفته تتغير مع الحياة وهذا ما يجعل الإنسان ملزماً بكتابته إلى الأبد).
 
الأبنية اللغويَّة
في ما يوجز الشاعر علي رياض ملاحظات يصف فيها طبيعة الهيمنة لوسائل التواصل في حوارية التلقي الشعري حاليا وتحرر النص من الابنية اللغوية الصلدة، إذ يرى بأنه: 
(مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي في مجال النشر الشخصي، حملت الكتابة عموماً والشعر خصوصاً أخلاقياتٍ جديدة مستنبطة من العولمة الفكرية والثقافية، فصارت القصيدة الجديدة تتخفف من البناء اللغوي كثيراً لدرجة التماهي مع اللغة الصحفية المباشرة، وتعتمد المفارقات اللغوية لصناعة الدهشة اللحظية، وبأقل عدد من الكلمات الممكنة.
إن هذه السهولة – يضيف علي رياض- في المبنى والاختصار بالكلمات (لا الاختزال، فهو تقليل حجم، لا تكثيف معنى) قللت من نخبوية الشعر المعاصر ورفعت من عدد قرائه بشكل ملحوظ، لكن في الوقت ذاته، سلبت من القصيدة خصوصيتها اللغوية، ونزعة الذات الشعرية للشاعر من روحها، فصارت تتنازل وتنزل للقارئ، عكس ما كان عليه الشعر في ما سبق).
الشاعر مهند الخيكاني يضيف أبعاداً تفصيلية الى ما تقدم ليناقش حمولات النص المتمايزة ومحتويات القصيدة وتحدياتها بغض النظر عن شكلها التقليدي او المفتوح نحو عتبات الحداثة او المجترح لذاته شكلا نثريا يطرح مراهنات خاصة تنأى عن الرطانة اللغوية والتلغيز. يقول مهند:
(على الرغم من أن لكل حقبة زمنية بروزات ثقافية وفكرية وسياسية تميزها وتكون الحاضنة لأغلب نتاجاتها، إلا أنني أرى بأن لكل شاعر في خضم تلك الاشتباكات توجهاته في تلك القصيدة ومنها ينطلق في ترسيخ تصوراته الفكرية والفنية وغيرها، وذلك لأن الشعر ببساطة كامن في كل ما هو إنساني ينحو باتجاه التجاوز والتجرد من القوقعة التي تفرضها الايديولوجيات بغض النظر عن شكل النص. لكن إذا ما شئنا إلقاء نظرة بانورامية على هذه القصيدة باختلاف مشاربها في نظرة كلية الى حد ما، فإننا سنرى أنها تتراوح بين ما هو كوني وبين ما هو محلي بحسب القدرة على توظيف المادة المراد شعرنتها وشحنها من الداخل بطاقة فكرية تمنحها القدرة على ملاصقة الحياة وعكس شيء من إشكاليات الواقع سواء بما كان موضوعيا أو ذاتويا. 
 
الانتماءات الضيقة
ولعلّنا نستطيع محاكمة النص اليوم بحسب ابتعاده عن التغريض والتخندق في أطر من الانتماءات الضيقة، خصوصا ان الواقع السياسي والثقافي في العراق بعد 2003 هو واقع ينطوي على مضامين لبيئة فكرية وثقافية مختلفة، اتخذت من الكتابة عموما بجميع تشكيلاتها وصنوفها منفذا لما هو مغاير ومنفتح على الحياة والعالم والكون، وللقصيدة الجديدة نصيب من كل تلك التغييرات؛ ولذلك نلحظ ارتفاع الخط الاحتجاجي مثلا كنسق في النصوص الجديدة أو القصيدة الرافضة لكل المركزيات السلطوية السابقة بما فيها من أبوية وقبلية، ولربما أقول لربما هذا هو واحد من أهم الاسباب التي جعلت القصيدة الجديدة تميل الى الوضوح العميق أو الوضوح الغامض مبتعدةً عن الترميز والرطانة اللغوية ومحاولات التمويه داخل النص، قصيدة تميل الى مواجهة موضوعها وتبنيه ويمكن للقارئ تمييزه بسهولة، على اعتبار ان النص يمثل انعكاسات لوقائع سياسية وثقافية متأثرا بطبيعة السلطة ونوعها وتشظياتها على كل من الثقافتين المادية والمعنوية للأفراد.
 ويمكن القول إننا نعيش في حقبة استطاعت القصيدة ان تستعيد عافيتها وعافية الشعر فيها بعد أن تخلصت من الرقيب وأخذت بالتحول الى أداة فضائحية لكل ما هو مستور ومنبوذ ومعيب بصوت عالٍ، واللطيف ان القصيدة الجديدة في جانبها العمودي تأثرت لدى بعض الشعراء بهذه التغييرات وصرنا نقرأ قصائد موزونةً ومقفاة تحمل في طياتها خطابا حداثيا تنادي به مثلا قصيدة التفعيلة أو النثر بما فيهما من ميول نحو الكشف والفضح واعادة قراءة الماضي والحاضر بوعي "هنا والآن" مثلما هي لدى عارف الساعدي وهزبر محمود وأجود مجبل على سبيل المثال لا الحصر. 
 
الفرد والسلطة
وعلى وجه الخصوص تمركزت هذه التغييرات في نصوص النثر أكثر بل إنها الحاضن الأكبر لها وهذا جانب آخر يحتاج الى مساحة كبيرة لنقاشه. 
من خلال ذلك يمكننا ان نقول أيضا بأن القصيدة الجديدة امتلكت تنوعا غزيرا في الموضوعات التي تتناولها بدل الانكفاء على موضوعات محدودة بين الفرد والسلطة وبين الفرد ونصوص الحصار والحروب، إذ إن بِركة الموضوعات الشعرية انتعشت وأصبحت عامرةً بتناولاتها اللامحدودة لكل شيء في الحياة، إذ صار بالإمكان اتخاذ عود ثقاب موضوعا مهمّا للقصيدة أو أية تفاصيل اخرى صغيرة ومهملة تنتمي الى فضاءات الحياة اليومية. 
في الختام، إن الأفكار كلما نضجت تتخلص من عموميتها واتجاهاتها الكونية الى اتجاهات أكثر تحديدا وتركيزا، مثل الاتجاه السائد الان الاتجاه الحياتي اليومياتي والذي يهيمن على أغلب نصوص هذه المرحلة وكل المراحل التي قيل وتم الاعتراف بشعريتها، فهي قصيدة منتجة وتميل الى الابتكار وليست قصيدةَ محاكاة وتعكز على الماضي. وتجدر الإشارة الى أن حتى الغرضية في بعض نصوص اليوم هي غرضية مختلفة عن تلك السابقة ذات الهالة المناسباتية الخالية من الشعر والفكر وخصوصا في بعض قصائد الرثاء. 
ونضيف الى ما ورد أن هناك من النقاد من أطلق على أجيال ما بعد 2003 جيل الجوكر لكونهم لا يميلون الى شكل شعري على حساب آخر، بل يمارسون كتابة الشعر في مختلف الأشكال الشعرية عمودية وتفعيلة ونثرا ما دامت ممتلئة بالرؤى والأفكار المدهشة).