الحياة بين هاتف وهاتف!

الصفحة الاخيرة 2020/09/24
...

زيد الحلّي
يوم الثلاثاء المنصرم هاتفني صديق عزيز، عرفته جاداً قليل المزاح لكنه في مهاتفته تلك كان على العكس تماماً، هاشاً باشاً عالي الصوت يتصيد العبارة الضاحكة، فاجأني بكم من النكات، وسط ذهولي حتى عددتُ الامر مزحة من شخص، يقلد صوت صديقي الجاد !
وقبل أن يغلق الهاتف سألني عن اصدقاء مشتركين واوصاني بإبلاغهم تحياته، واخبرني بأنه اختار بداية الشهر المقبل موعداً للقيام بجولة سياحية في عدد من البلدان في حالة السماح لحركة الطيران بالعمل، والح بأن اخبره بما ارغب من تلك الدول، فشكرته وودعته وانا في حيرة من امر الصديق الذي تحول فجأة من رجل مُتجهّم شديد العبوسة الى رجل ترفرف الضحكة والسعادة على شفتيه..!
وبعد ساعات قليلة اتصل بي ابن الصديق ليخبرني وهو في انهيار تام، بأن اباه قد توفي بالسكتة القلبية .. لا إله إلا الله ... بين هاتفه المفعم بحب الحياة ومماته مدة وجيزة .
وبدلاً من الاستمرار بكتابة عمودي الذي كان مخصصاً لحالة اجتماعية معينة، اتجهتُ بقلمي الى مقارنة هاتف صديقي وخبر رحيله.. وهكذا هي الحياة كلما رحلت بنا السنون في رحلة العمر بدت لنا من غائبات الأمور التي أقصيت عنا بقصد خبيث أو لإهمال ماجن، ما يعيد شحن الذاكرة ويتولى النفس عدد من الاسئلة، تبحث عن مرد أو مخرج أو تفسير لما يلقى علينا الآن من قمامات الزمن.. هي الدنيا، رواح ومجيء، صعود ونكوص، ألق وذبول.. وعندما تغلق ابواب السعادة امامنا، قد تفتح ابواب اخرى، لكننا لا نشعر بها لأننا نمضي وقتاً طويلاً في الحسرة على الابواب المغلقة، ناسين ان الباب المغلق الأكبر.. هو الموت، فعلام هذا السعي وراء سراب الحياة..؟ فهذا السراب يشبه صخرة رمتها الأقدار إلى بحيرة تبدو راكدة في ظاهرها، لكنها متقلبة الأطوار متضاربة الجاذبية بفعل تصادم التيارات الجوفية.
في جدلية الموت تبرز حقيقة الحقائق وهي السؤال الازلي من الذي يسبقك اذا كنت تجري وحدك... نعم، الانسان هو صنو الواقع، لكن البعض لا يريد أن يصدق ان الحياة ومضة، وان الإعجاب المبالغ فيه بالنفس عند المرء هو وليد الجهل... ويبقى المثل التركي شامخا على بوابة الحياة، وهذا المثل يقول (أيها الإنسان لا تنس الموت فانه لن ينساك) .. ولاشك ان التجربة الانسانية تجربة طويلة، متنوعة الالوان ومن العسير على اي انسان أن يبلغ حقيقتها او شطراً منها ، عن طريق سعيه الوحيد، فلابد أن تتضافر الجهود، وتتآزر الهمم في سبيل الكشف شيئاً بعد شيء، وبحركة متطورة متقدمة دوماً عن المعاني المخفية في الكون والاشياء وهي كثيرة جداً ..
لقد علمني أهلي الكلام، لكن الناس علموني الصمت ففي الصمت نتأمل عظمة الاشياء، وفي الكلام ندخل جلبة الحياة لـتأكيد الذات والأمران مطلوبان.. مثلما الموت والحياة، فالدنيا أشبه ببركان خامد نستوطن قمته وسفوحه بيقين جازم، من تكلس حممه وقبل أن نطمئن في جلوسنا يثور فجأة، فيغرقنا او يحرقنا كما فعل في ثورته.. الأولى!
رحمك الله صديقي، لقد اكتشفت السعادة في آخر لحظاتك.