مقبرة القارات

ريبورتاج 2019/01/10
...

روبن جورج أندرو 
ترجمة: انيس الصفار   
يرقد الجزء الشرقي من القارة القطبية الجنوبية مطموراً تحت طبقات سميكة من الجليد، بعض العلماء كانوا يفترضون ببساطة ان ما يوجد تحت تلك الكتلة الباردة ليس اكثر من "كتل تكتونية متجمدة" تتسم بدرجة ما من التجانس مع نفسها ولها اختلافات تميزها جيولوجياً عن القارات الاخرى. (ملاحظة:  الكتلة التكتونية هي جزء من قشرة الارض يمكن التعامل معه باعتباره كتلة قشرية متصلبة من الحجر. الكتلة التكتونية تكون محاطة احياناً بالتصدعات ومن الممكن ان تتحرك من جانب الى آخر بسبب الازاحة التكتونية او حتى الدوران حول نفسها – المترجم)
بيد ان البيانات المستحصلة من احد الاقمار الاصطناعية الاوروبية، الموقف حالياً عن العمل، مكنت العلماء مؤخراً من اكتشاف ان الجزء الشرقي من القارة القطبية الجنوبية هو في الواقع مقبرة لبقايا قارات قديمة. انشأ هؤلاء العلماء خرائط مذهلة ثلاثية الابعاد لأقصى الجزء الجنوبي من العالم التكتوني تحت الأرضي فإذا بهم يكتشفون ان الثلوج الخارجية تخفي تحتها حطام قارات عملاقة قديمة العهد تبهر العقول.
قارات ملتئمة
اصدر فريق الباحثين الذي يتولى قيادته "جورغ إيبنغ"، وهو جيولوجي من جامعة كييل في المانيا، تقريراً تضمن هذا الاكتشاف الذي وقع عليه الفريق في مطلع شهر تشرين الثاني.
اعتمد الكشف المذكور على بيانات مستمدة من القمر الاصطناعي الملقب "مستكشف حقول الجاذبية ودورة المحيطات في الحالة الساكنة" ويرمز له اختصاراً بالاحرف (GOCE). كان هذا القمر يدور على ارتفاع لا يتعدى 250 كيلومتراً فوق سطح الارض حتى اواخر العام 2013 حين دخل عائداً الى الغلاف الجوي بعد انتهاء مهمته، وكانت لديه القدرة على قياس الحقول المغناطيسية التي تتخلل القشرة الارضية وطبقة الجبة التي تحتها.
تقول "كيت ونتر" التي تدرس ثلاجات القطب الجنوبي في جامعة نورثامبريا بانكلترا، وهي ليست من فريق الدراسة، ان بيانات القمر (GOCE) قد ساعدت على جمع قطع القارات العظمى الى بعضها بتفصيل رائع.
كشفت عين (GOCE) ان الجزء الشرقي من القطب الجنوبي يشبه احجية الصورة المقطّعة لثلاثة عمالقة جيولوجيين يطلق عليهم اسم "الاقاليم الكراتونية". العمالقة الكراتونية هذه هي اصلاً قارات قلبها من الصخر المستقر تمكنت من الصمود لمئات ملايين السنين بوجه عملية التحطيم التي يسلطها عليها النشاط التكتوني للصفائح الارضية.
أحد الكراتونيين له جوانب شبه من الناحية الجيولوجية بالقاع الصخري لاستراليا في حين يشبه الثاني القاع الصخري للهند. اما الثالث فهو اندماج لأجزاء مختلفة من قيعان بحار قديمة. 
يقول "فاوستو فيراتشيولي"، وهو استاذ اقدم في الفيزياء الجيولوجية من المشاركين في الدراسة: "لا نزال نجهل كيف اجتمعت هذه الاقاليم معاً أو متى لتكون الجانب الشرقي من القارة القطبية الجنوبية على النحو الذي نراه الان، والامر متروك للتأمل والمناظرة."
من المحتمل ان هذه الاجزاء قد تجمعت قبل نحو مليار سنة عندما تكونت القارة العظمى "رودينيا"، او ربما تكونت في عهد احدث قبل 500 مليون سنة عند تشكل القارة العظمى الثانية "غوندوانا". بيد ان الراقد تحت القطب الجنوبي في أي من الحالتين هو جزء من بقايا تفتت "غوندوانا" الذي حدث قبل نحو 160 مليون سنة.
تفاوت الجاذبية
توصف القارة القطبية الجنوبية بأنها القارة الاقل وضوحاً وفهماً على وجه الارض قاطبة، كما تكتنف عالمها ما تحت السطح غوامض كثيرة لأننا لم نكن نمتلك من الوسائل التي تمكننا من رؤية ما تحت طبقة الجليد البالغ سمكها نحو كيلومترين التي تغطي 98 بالمئة من سطحها سوى البيانات المغناطيسية والزلزالية المستشفة وقراءات الرادارات المخترقة للسطوح المركّبة على متن طائرات.
هنا يدخل القمر الاصطناعي (GOCE) الحكاية، حيث ان حقول الجاذبية تتفاوت شدتها حسب الاجسام التي تتداخل معها، و(GOCE) بمجسه الفائق الحساسية المصمم لقياس الجاذبية وبفضل قربه من سطح الارض لديه القدرة على تحري الكتل القابعة تحت السطح الجليدي بتفاصيل أخاذة.
يقول الدكتور فيراتشيولي: "جمال GOCE هو انه يمنحنا القدرة على النفوذ عميقاً الى ما تحت الغلاف الصخري الى ان نبلغ جذور القارات."
اما الدكتورة ونتر فتعتقد ان التركيب الجيولوجي لتكوينات العمق الارضي للقارة القطبية الجنوبية في جانبها الشرقي لم يكتشف بعد رغم كل ما تحقق. احد الحلول لمعالجة ذلك هو التنقيب المثقبي في قلب القارة واخذ عينات مباشرة من الصخر مستعينين بخرائط   GOCEكي ترشد العلماء في تحديد أفضل المواقع التي ينبغي الحفر فيها.
التعرف على الواقع الصخري الذي تستقر عليه اكبر صفيحة جليدية في العالم له اهميته في عالم يعاني من ارتفاع درجات حرارته لأن الطبيعة الجيولوجية لما تحت المناطق المتجمدة تؤثر في كيفية تحرك الثلج تجاوباً مع التغيرات المناخية. بيد ان هذه الدراسة لها انعكاسات مهمة تتعدى مجرد فهم اعمق لعالمنا، لأن النشاط التكتوني هو القوة المحركة التي تدير كوكبنا، هذه القوة هي التي تصنع البراكين وتحرك العوامل الجوية وتنحت احواض المحيطات وتنشيء السلاسل الجبلية. لذا لن نتمكن من فهم عملية التطور التي تمر بها ارضنا بشكل كامل ما لم تكتمل لدينا قطع الاحجية، وبيانات القمر الميت قد ساعدتنا على اكتشاف المزيد من تلك القطع المفقودة.