يوسف محسن
يحيى محمد مفكر مجهول نسبيا في المجال الفكري العراقي، الذي يتعاطى مع المفكرين الايديولوجيين والراديكاليين اكثر ما يتعاطى مع الفكر المستقل والفكر الاصلاحي، الخيط الناظم لمشروع يحيى محمد يتمحور حول سؤال(الفهم وفهم الفهم الديني)، وهنا يأتي فهم الخطاب الديني من خلال المشاريع الفردية التي انطلقت في العالم العربي الاسلامي في بدايات القرن مع النزوع الليبرالي، فضلا عن ذلك ان فهم هذا الخطاب المنتج داخل مؤسسات حماية الايمان والتي تعيد انتاج السيطرة وهندسة المجتمع ونتاج العلاقات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية عبر نسق القابلية للتحول او النقل وتمثيل المعرفة والخطابات الدينية كمولد ومنظم لتلك المعرفة.
الأعمال الفكريَّة والفلسفيَّة
يحاول مشروع يحيى محمد وجهوده الفلسفية والمنهجية فهم الدين عبر حركة ضخمة من النقد الفلسفي والعلمي للتراث الديني( الفقهي والتشريعي والنظام المعرفي الاسلامي)، بوصفه أول حقول الاشتغال النقدي. وإيجاد علاقة بين الدين وموقعه من نظام الواقع المجتمعي وتغيير المعادلة الكلاسيكية بين(الطبيعة، الإنسان، العالم)، متجاوزا حدود القراءات التحليلية التقليدية وتدشين معقولية جديدة في مسار النظام المعرفي الاسلامي وتفكيك هذا النظام وآلياته الاجرائية، مشروع يحيى محمد يمنحنا فضيلة التساؤل واعادة النظر في جميع الاجوبة واليقينيات الجاهزة في النظام الديني الاسلامي بوصفها حقائق نسبية، حيث يطرح سؤال( فهم الاسلام، الفكر الإسلامي: نظمه.. أدواته.. أصوله) في العالم المعاصر والنظام الواقعي للاسلام، فضلا عن ذلك اعادة التفكير مع الفقهاء والمؤرخين وقراءة نصوصهم الدينية والتشريعية والفقهية بغض النظر عن الهويات الطائفية، اي انه يخضع النظام الديني الاسلامي للفحص النقدي، هذه الجذرية الابستمولوجية في مشروع يحيى محمد تسعى الى اعادة رؤية العالم من المنظور الاسلامي وتفكيك علاقات السلطة الدينية وعملها داخل النصوص والمجتمع، فمن المعروف ان اي نص (فقهي، تشريعي، فلسفي..) لا يكتب بمعزل عن هذه العلاقات. يحيى محمد ومن خلال اعماله الفكرية والفلسفية يأخذ بنظر الاعتبار تحولات الواقع، سواء كان الواقع المادي او الفكري والذي يعد المخيال وتصور العالم والمنظومات الرمزية وتاريخ البشري الوقائعي احد اوجهها، ما يتطلب تفكيك الادوات المعرفية والجهاز المفاهيمي لنمط العلم الكلاسيكي للوصول الى الجذر الابستمولوجي للنظام الاسلامي واعادة انتاج سلسلة من المفاهيم والادوات للوصول الى الفهم العقلاني للدين ويتطامن مع النظام الوقائعي الاجتماعي للمجتمعات البشرية.
المنهج والتنظير الفكري
يحيى محمد يوضح (ان بداية المشروع كانت منذ سنة 1986، وكما يقول: كنت آنذاك افكر بدراسة مناهج الفكر الاسلامي مع وضع البديل المناسب، وقد صنفتها الى اربعة، هو المنهج النقلي والعقل العملي (الكلامي) والفلسفي والعرفاني. وكان طموحي ان اضع بديلاً عن هذه المناهج، وسميته المنهج الواقعي) ثم عاودت البحث من جديد في السنوات التالية، خصوصاً بعد التسعينات من القرن المنصرم، فتمثلت لدي اربع طرق للتفكير التراثي ضمن نظامين معرفيين، اطلقت على احدهما النظام الوجودي ويشمل الفلسفة والعرفان، كما اطلقت على الاخر، النظام المعياري ويشمل المنهج العقلي والبياني، وقد ضمّنت هذه الطرق المعرفية في كتابي(مدخل الى فهم الاسلام) الذي انتهيت منه سنة 1994، ووضعته كمدخل لنظم التراث المعرفي، وكنت في ذلك الوقت افكر بوضع مشروع متكامل بخمسة اجزاء سميته(المنهج في فهم الاسلام)، وصدّرته بمدخل متعلق بعلم الطريقة، ثم بعد ذلك قمت بتفصيل هذه المناهج او النظم المعرفية ضمن كتابين مستقلين، هما:(الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية) و(العقل والبيان والاشكاليات الدينية). وطرحت في قبال هذه النظم نظاماً جديداً للفهم اطلقت عليه(النظام الواقعي). وقد صدر حوله كتابان هما(جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع).
المشروع الاصلاحي
يسلط مشروع يحيى محمد الضوء على دراسة فهم النص الديني من الناحية المنهجية. وهو يتحرك ضمن(البنى التحتية) للفهم، اذ ابتكر علماً خاصاً سمّاه(علم الطريقة)، وهو شبيه الاعتبار بما يطلق عليه(فلسفة العلم) بالنسبة للعلوم الطبيعية. وكان الهدف من ذلك هو القطيعة مع جميع ضروب التفكير المذهبي، وإحداث نقلة نوعية في نمط التفكير والبحث، مثلما جرى مع العلم الطبيعي الذي أحدث قطيعة بين ما كان عليه قبل النهضة الحديثة وما بعدها، اعتماداً على مبدأ المراجعة وفحص النظريات باستمرار دون انقطاع.