عتبات فك مغاليق النص

ثقافة 2020/09/25
...

  مهدي القريشي 
 
 
من ضمن برنامجها النقدي الجديد الذي ارتأت ان تخوض غماره الدكتورة سهير ابو جلود هو سياحة ثقافية لاستنباط العتبات النقدية لمجموعة من الشعراء العراقيين لتجمعهم في كتاب، وقد صدر الكتاب في جزأين تحت عنوان (عتبات نقدية) عن دار ومكتبة سامراء للنشر والتوزيع والذي يضم بين دفتي الغلاف عتبات نقدية مختارة لخمسين شاعراً عراقياً لكل جزء. منهم الشعراء (خالد المعالي، كاظم الحجاج، عبد السادة البصري، صلاح فائق، زعيم ومحمد نصار، وسام هاشم، ايهاب شغيدل، جوانا إحسان، ميادة المبارك ومهدي القريشي وآخرون، . وفي جانبها النقدي هي انموذج لخصائص الشعرية العراقية المعاصرة في وظيفتها وخصوصيتها وخروجها عن النمط السائد في النقدية العراقية والتي تسهب في فك مغاليق النص. فقد جاء في عتبة الشاعر خالد المعالي (ثمة أصوات تتناوب على النص ينفرد فيها صوت مضّبب قلق يحجب الشمس ويطمس معها كل حقيقة، صوت يهدد الذات الانسانية التي تستشعرالنهاية والتلاشي والأوهام.
 
تحويل المعنى
أما عتبة الشاعر كاظم الحجاج كانت دعوة لتعرية الشخوص وفضح ذاكرة الاحداث، هدف واحد لتلك التحولات توضحه نهاية النص (فكل ما تريده يا أمنا الصحراء.. أن يعرف المريض اسم الداء) حين يتحقق هذا الهدف وهو تحويل المعنى المغيّب والمعتم، واحياناً المَنسي الى حقيقة عندها فقط يمكن أن نستسلم الى اغراء الصحراء. 
والعتبة في معناها الاصطلاحي هي اول التلقي كما جاء في مقدمة الكتاب، وهي فعل قرائي يفتح آفاقاً لقراءات اخرى وحوارات نقدية مختلفة ورؤى تقوم على الحدس والحس واستنطاق الدلالة التي تُعنى على تدفق المعنى الى ذهن المتلقي، بعد ان تُحدد له الإشارات التي تدل على العلاقة بين اجزاء النص، وفي حديث للدكتورة ابو جلود( ان كل إشارة وردت في العتبة تصلح لدراسة مستقلة). ولا تكتسب العتبة مكانتها الاجرائية بمعزل عن خصوصية النص نفسه وتصورات المؤلف، وقد حدد جيرار جونيت في دراسته (عتبات) جملة من الضوابط للعتبات وهي اسماء المؤلفين والاهداء والعناوين والمقدمات والعنوانات الفرعيَّة.
والعتبة عند ابو جلود كما بينا انها خلاصة المعنى النقدي بدون إطالات او تفرعات جانبية كما في الدراسات النقدية، التي تعتمد على المتابعة والتفصيل والتفسير والتحليل، بمعنى ان العتبة هي خلاصة ما يضمره الشاعر داخل النص في سياقاته المضمرة وما على المتلقي خاصة الناقد البارع ان يتبأر في حيثيات النص، ليستخرج المعنى الذي يضيء النص. 
 
الحقيقة المضمورة
وهذا ما توضحه ابو جلود في دراستها لعتبة الشاعر وسام هاشم، وبالرغم من ان نصه قائم على تلك الحدود المتجاورة المتلاصقة، الا ان كلها تدور في حلقتي الوهم( الردّ، الوصول وكسر الوهم لارد، لا وصول).. النص يؤكد في كل شطر منه الحقيقة المُضمرة في الوعي.
لكن ما يحصل في نص الشاعر مهدي القريشي أنّ ذاكرة جماعية بدأت تؤرّخ لخطوات، و(تسعى لأسألة بكف) متسامية بـ(الأنا) تتجلى فيه الذات أحياناً (بخطّ، أو رقم) وتنشطر على نفسها احياناً أخرى، النص لحظة يصعب الامساك بها وعلى القارئ أن يسارع بلجم حركته المتسارعة، لان الاخفاق في ذلك معناه هيمنة أخّاذة.
ومن مميزات العتبة انها تستند الى واحدية الالتقاط من فحوى النص، فأما ان تكون إشارة او أيقونة أو لون أو ثيمة، والخلاصة ان العتبة هي مفتاح لفتح الأبواب المغلقة والسماح بالدخول الى عالم النص والتفاعل مع محتوياته ولا تمارس عند احدى هذه الأيقونات كما تقول الدكتورة ابو جلود. 
 
بناء العتبة
وفِي أحد لقاءاتها مع جمهورها أفاضت الدكتورة في توضيح فكرة بناء العتبة من خلال دفوعاتها عن العتبات المختارة قائلة: إنَّ كثيرا من القراءات استوجبت مني قراءات استدلالية استقرائية، واستوقفت عند المنهج الاستدلالي، حيث اشارت الى ان هذا المنهج هو منهج مهم على عكس المنهج الاقصائي والذي وصفته بالمنهج البليد، حيث يقوم بوقف حس الإبداع عند طلبة الدراسات، اما المنهج الاستدلالي وما زال الحديث للدكتورة ابو جلود انه منهج مهم، وهو معين لبقية المناهج، حيث يتزاوج مع المناهج الاخرى، مثلاً نقول سيميائي استدلالي، بنيوي استدلالي، تأريخي استدلالي. 
واضافت الدكتورة ان اكثر من 90 ٪ من نصوص الشعر العراقي تطلبت أن ابحث فيها او أن تستند فيها العتبة او بما يعرف بالمفتاح، والعتبة تعتمد على الكلمة المفتاح الغائب حسب المنهج الاقصائي وهي الكلمة التي تدور في ذهن الشاعر وتسيطر عليه دون ان تلتبس والذي يكتشف ذلك هو القارئ الذي يدرس الشعر، وهناك نصوص ارتأت العتبة أن تبدأ من نهاية النص، وهناك نصوص تعاملت معها كمفسر الأحلام، بحيث يستند الى نقطة واحدة من الحلم.
 
أوصاف حسيّة
وفِي عتبة اخرى اختارت الناقدة نص الشاعرة ميادة المبارك، حيث ذهبت الدكتورة ابو جلود الى ان الشاعرة انسنت القمر والى جانب الانسنة في هذا النص اتجهت بأوصاف حسيّة تستدعي استجابة حواس الانسان تجاه ما يؤلمه، وتضيف ابو جلود في النص قوة آخرى تشد الشاعر والقارئ الى نقطة التصورات والاخيلة التي تعيش فيها. 
لم يكن اختيار الشعراء الذي اسمتهم ابو جلود بالفرسان جاء اعتباطاً او لإملاء فراغ هامشي في الساحة الثقافية العراقية، بل جمعتهم محنة الوطن بمشهدها المرتبك والفوضوي، فكتبوا نصوصاً تحمل في طياتها كل مقومات الاغراء الابداعي والجمالي والتحريض والغواية للاشتغال النقدي، وتمردها على النمط السائد ومراوغتها للغة.