النسويَّة وفلسفة الأضداد في الشعر الحداثوي

ثقافة 2020/09/27
...

  ابتهال بليبل
 
 
نادراً ما تعكس عناوين المجاميع الشعرية رؤية واضحة لأفكار وصور مبتكرة وبعيدة عن الأنظمة الجندرية والأبوية والقيم الذكورية، مع الأخذ بنظر الاعتبار لغة المخاطبة التي يبدو أنها أحادية التوجه، كما لو كان القرّاء من الرجال فقط، بينما الإناث مستبعدات بوعي الشاعر أو من دونه.
وفي هذا الصّدد، أجد أنّ من المهم فهم المجموعات الشعرية التي يغدو فيها الجسد الأنثوي إشارة تخدم التحيّز الجنسي والفكري كمرحلة عصريّة مناهضة للنسويّة التي غالباً ما تبدو بعيدة عن النضج الثقافي.
والحقيقة، أن عنوان المجموعة الشعرية (لم أكن تمثالها- أنا النور الذي يفيض بمفاتنها) للشاعر حميد حسن جعفر تمكّنت من تغيير بعض الفرضيات الأيديولوجية وكذلك المفاهيم المرتبطة بموضوعات النصوص وأفكارها التي تذكرنا بالصورة النمطية للمرأة في الأدب الذي يكتبه الرجل، فضلاً عن الرموز التي يفترضها الشاعر في تصوير الشخصيات النسائية داخل مجموعته. من المؤكد أنّ الإضاءة عن الشخصيات النسائية هنا يستدعي التساؤل عن مدى حقيقة الملاحظة التي مفادها أن الأدباء يميلون إلى تركيب صور حياتهم النمطية على النصوص الابداعية كأداة ضمنية داعمة لما يمكن أن نتصوره عن الذكورية المكبوتة؟ 
بالنسبة للذكورية المكبوتة، فإن النساء تربطها بأيديولوجية الاستيلاء أو التحكم الذي تفرضه الرموز للتعبير عن لغة جسد غير قابل للترويض، فتضطر إلى الاستغناء عن تحكمها الذي ينبثق، عادة، من سلطة أو قوة خارجية (بهضمه ودمجه في الذات- على حد قول ميشيل فوكو بوصفها ضرورة مفرطة لمعارضة نظام التحكم). 
وبهذه الطريقة، تواجه النساء صعوبات في استيعاب (غيتوهات) النصوص والسرديات الذكورية المكبوتة، نظراً لعدم قدرتهن على أن يخدعن أنفسهن ويتظاهرن بموضوعية إخضاع عواطفهن لعقولهن على أساس الاحتفاء بأجساد النساء من جهة وبالأبويّة من جهة أخرى.
يتبنى الشاعر حميد حسن جعفر ضمن العنوان «نظريّة الشيء» التي تعتمد على أفكار توماس ميتشل في إثبات أن (حياة الكائن هي شكل متقلب، بينما المادة والسطح حياة يمكن تحفيزها ولكن لا يمكن احتواؤها).
حقيقة، قلة من الشعراء ينتبهون إلى أن الأشياء المادية هي من تقوم بمهمة إلقاء الضوء على الرغبات والمشاعر والذاكرة داخل النص وخارجه. 
الشاعر في عنوان المجموعة يسيّس الاستعارة النحتية (التمثال) إلى فعل شعري يعمل على استعادة الجسد الغائب.. جسده الذي ينسحب من التفاعل البشري ربّما حتى يتفادى سيطرته الوجودية التي –عادة- ما تكون لها دلالة ايروتيكية عميقة، أو طلباً للرضى. 
إن رمزية التمثال – الأداة القديمة المنسية لفكرة الخلود، هي أيضا أداة جنسانية عززت الممارسات الجندرية بطريقة تعكس المفاهيم الاجتماعية والثقافية المتشابكة مع الألوهية والأنظمة الأبوية والأمومية، وكذلك القوى الأنثوية مثل (ميدوسا) ربّة الحكمة والثعابين التي كانت تحول الذكور إلى أحجار بنظرها، رغم أن شخصية التمثال في عنوان المجموعة تعبر عن الاستياء أو اليأس الذي يشير إليه الشاعر، وكأنّ جسد (التمثال) ساحة معركة تتجاوز كلّ اقتراح يتعلّق خفية بفكرة الخضوع المتأصلة بالمرأة ويكشف واقعاً متحيزا جنسياً لا يمكن شطب نظرته الذكورية عن العنف المنظم لإفساد جمال جسد المرأة وقدرته في الحفاظ على وظيفة الإغراء.
من ثمّ، يظلّ التمثال جثة سلطويّة خاضعة لسياسة تسودها إيديولوجيّة في مواجهة بصرية مع الغرض الرمزي الذي استعان به الشاعر للاعتراف في أنه (النور الذي يفيض بمفاتنها) كوسيلة للعودة إلى أصوله الفلسفية التي تتجلى في - فِتشيَّة – أشياء من الممكن تحديدها من قبل العين البشرية مثل (النور) الذي يمثل الصراع بين الحب والحرية.. الحرية المجترَّة أحياناً من القسوة. 
بهذا المعنى، يجادل الشاعر بشكل ضمني في -أنها لم تكن وكيلة جسده- عندما يستهل عنوانه بعبارة (لم أكن) كشكل تعاطفي يقوّض بوعي ذاتي المفاهيم المجندرة للقيم الاجتماعية والثقافية في عصور كان الشكل الذكوري للتمثال هو التجسيد الأسمى للآلهة وكذلك للجمال. إنّه يستبعد (البيوميثوغرافية) بوصفها اداة مجازية للتمثال، لزعزعة (دوغماتية) كامنة في سلطة متخيلة تكشف القدرة على فراق المتمردات الجميلات.
باختصار، الشاعر هنا يستخدم نسويتها ليشترط عودة مختلفة، مما يخلق إحساساً بضرورة أن يخفي الحقيقة بطريقة أو بأخرى عند اقتراب نهاية ما.
لوهلة، يدفعني الشاعر للتركيز على (الجسد الميت/ التمثال- والنور/ الحياة) وكأن معرفة الذّات الانثوية تشتمل على فلسفة الأضداد وتهبها معاني نسوية، كما تتمظهر في (يفيض بمفاتنها) وفضلا عن النور الذي هو حركة الحياة يستحضر مفاهيم روحانية بمشهد طقسي يعبر عن الادراك بمعنى الحبّ الذي يقاوم الرحيل على مستوى خيالي، ولكنه مع ذلك يدعمه.