مغايرة النسق واستبدال السؤال

ثقافة 2020/09/28
...

د. جواد الزيدي
 
إنَّ مغايرة النسق المعتاد في التجربة الفنية عبر تقنيات ومضامين رئيسة يستند اليها الفنان كمساند فكرية قبل البدء بتشييد خطابه المرئي جماليا، تؤسس لمعنى الانزياح الذي يصب في خدمة الأغراض الجمالية ونموها عبر هذه الحركية التي سينتجها حتما العقل الديناميكي الفعال والعارف بخصوصية التحولات ضمن سيرورات تاريخية ناجمة عن المعرفة التراكمية في النوع الفني وحوار نصوص وأشكال وأسئلة داخل الذات الخلاقة، بما يفضي لتبدلات السؤال الوجودي على الدوام واعادة انتاجه من جديد في خطاب مرئي مختلف يتطابق مع الصورة الذهنية لمشاغل العقل واستيعاب السؤال
الجديد.
وهذا ما يمكن أن تنعت به تجربة الفنانة (منى مرعي) التي حاولت أن تجيب عن المشاغل العامة من خلال الخاص والشخصي في ضوء متناولات موضوعة المرأة (جنسها البشري) وتبنيها هذه الفكرة والتأكيد عليها، اذ قامت ترسم وترسم لتكريس دفاعها عن اضطهاد المرأة وسط عالم تتكرس يوما بعد آخر صورته الذكورية، فصورت شخوصها الانثوية بشكل طولي مبالغ فيه هيمنت هذه الشخوص كعلامة على سطحها التصويري بأكمله، المرأة بكامل حليتها وهيبتها وحضورها الجمالي وبألوانها الزاهية تعد علامة تمييزية للنوع البشري ضمن جغرافية 
محددة، بمعنى أنها امرأة شرقية كانت تتقصد رسمها بهذه الطريقة الأنيقة التي تعاني أزمتها البنيوية المركبة في مجتمع وضع مصداته بوجه جانب المعادلة الوجودي الآخر وتقويض امكانيته الوصول الى مراميه، على الرغم من فعل الكفاح الذي تمارسه المرأة نفسها أو آخرون آمنوا بقضيتها ومضمون أهدافها 
النبيلة. 
هذه المرحلة التي شكلت بدايات (مرعي) وأضحت سمة مميزة لاشتغالاتها تلك تكمن في رؤى متلقي خطابها الجمالي، إلا أنها كانت تؤمن بأن تكرار الموضوع يؤدي الى الأسلوب، بوصفه حافزا لتكريس المضمون الذي انطلقت منه وتمت العناية به كثيرا ولفت الانظار
اليه. 
بيد أن تحولا جوهريا اصطبغت فيه تجربتها عندما غادرت موضوع المرأة الى موضوع الأسرة أو المجتمع الأوسع ثراء في التعبير ويعد تحولا جوهريا يتحرك باتجاه المفاهيم الساندة ويصب في جمالية المضمون وخدمته، حين يتحول الخاص الى عام دون أدنى شك في هذا التحول لتوافر الاقناع الفني الذي
تمارسه .
 ولم تكن تلك العناية الأخيرة تقترن بتحولات المضمون فقط واجترح التبئير النصي الذي يتحول الى خطاب مرئي، بل كان تحولا تقنيا وأسلوبيا، يتخذ من أسلوب التعبير الشكلي الواضح لصورة المرأة وهويتها المكانية الى أسلوب التجريد سبيلا لصياغات جمالية مفارقة، إذ بدأت بتغريب أشكالها وتعدد مفرداتها مقابل صورة المرأة الوحيدة وسط الفضاء الحياتي والواقع المعيش، فتعدد العلامات أو الامثولة الايقونية يمثل مراحل عمرية من الأب والأم والأطفال وغيرها ورفدها بعلامات أخرى تمثل موجودات خارجية تحيط بالانسان يكتمل عندها المشهد الصوري أو البصري الذي تنشده، فضلا عن معالجات اللون ونقائه والخطوط والأشكال التي 
كانت تقع ضمن دائرة التعبيرية المفرطة في مراحلها الأولى والعمل على مزج الألوان وتداخلها في بنية الشكل واللجوء الى مفاهيم الحذف والاضافة التي تؤسس الى فهم آخر على صعيد التلقي تقترن بجمالية الصورة عبر المسار التأويلي الناتج عن تغريب الشكل أو المعالجة اللونية والعلامات الثانوية الأخرى المرافقة للعلامات الرئيسة المهيمنة (صورة العائلة) من منظور اجتماعي عنيت بها أخيرا، بوصفها جزءا من بنية هذا المجتمع وتثوير مأساته وآلامه وخيباته التي مثلتها العربات الناقلة للمعاقين بلونها الأزرق السماوي وسط عتمة الفضاء الأسود المحيط بالكتل البصرية التي تتماسك أزاء المحنة التي يمر بها هذا الشعب ضمن هذه الرقعة المكانية لإدانة أصوات الموت والخراب التي مورست تجاه الذات الانسانية، اذ يتحول الاشخاص الى اشباح وسط فضاء الموت والقتل والهجرات الجماعية، حتى تفقد البراءة احلامها الممثلة في صور الأطفال وتهاجر أمام هذه التحديات الكبرى التي يمر بها المجتمع تاركة خلفها ألعاب الطفولة والأشياء المحببة وسط فضاء أبيض خال من أي شيء ماعدا صورة الطفولة المتشظية والعبثية تحيط بها طيور الموت أو الشؤوم بما تحمله الذاكرة الشرقية من دلالات لهذه الطيور وهي تخطف الأرواح النبيلة وتترك الخراب في صور باحثة عن صورة الأمن والاستقرار في 
الذاكرة.