بــيـتُ فــرج يــاسيــن

ثقافة 2020/09/28
...

محمد صابر عبيد
 
البيوت - مثلما يُقالُ دائماً - أسرارٌ، البيوت حكايات ملونة ومتنوعة لا تنتهي ولا تتوقف ولا تكتمل، البيوت حالات وتجليات وتمثلات ومواقف وأحداث ومصادفات ورؤيات، البيوت تاريخ ومكان وزمان وقيمة، البيوت حراك وثبات وسيرة ونشاط وحدث وذاكرة، لا شيء مثل البيوت يمتلك قوة الألفة ودفء الحاضنة وحرارة السكن، يصلها الناس متعبون من يومهم الحافل بالعمل والكفاح والنضال الشاق من أجل لقمة العيش، فما أن يدلف إليها حتى ينسى التعب كله ويخلد لراحة عميمة هادئة.
ثمّة بيت هو بيتك تعيش فيه بأقصى درجات الحريّة بما يوفّره لك من إحساس صادق وعمليّ بالمِلكيّة، وثمّة بيت آخر لغيرك تسوقك ظروف العمل أو غيرها للتعامل معه فتحبّه أو لا تحبّه، البيت الآخر تدخل معه في امتحان عسير لأجل أن يكون مكاناً حاوياً أو طارداً، وربّما سرعان ما تكتشف بحساسيتك القادمة من خبرة بيتك وتجربته إلى أيّ اتجاه سيدفعك الشعور تجاه هذا البيت، وستكون اللحظة الأولى لحظة فارِقة في تشكيل رؤيتك على النحو الذي يتحرّك كلّ ما فيك لأن يكون لك أو عليك، وحين يكون عليك لن تنشغل به كثيراً إذ تغادره وينتهي الأمر، لكنّه حين يكون لك فستخوض تجربة تكوينيّة جديدة في بناء إحساس جديد حول بيت أدرك لَحْنَكَ الخاص في لحظة نادرة، وأشعرك بأنّه قريب جداً من بيتك كي تتوطّن روحك وتنفتح عليه انطلاقاً من مثابة هذا الفضاء النديّ.
تدلفُ إلى بيت فرج ياسين في مدينة تكريت "حيّ الأربعين" من الباب الخارجيّ فتستقبلك الحديقة على يسارك، مربّعة الشكل تقريباً، تحيط بها أشجار البرتقال والليمون والنارنج وكأنّها تحرس النجيل الأخضر المهيمن عليها، هذه الحديقة هي وطن الضيوف في المساءات الصيفيّة الجميلة الرائقة، وقد حفلت بشخصيات شبه دائميّة وأخرى تشارك هذه الجلسات على نحو متقطّع أو متفرّق، ثمّة قطّة دافئة تسرح وتمرح بحريّة تكشف حتماً عن قدرٍ كبيرٍ من الاحترام تحظى به من أهل البيت، أما الطيور التي تحطّ على رؤوس الأشجار وترسل أصواتها بين الحين والآخر فهي جزء لا يتجزّأ من فضاء الحديقة.
الليل هو شريك الجمع إذ تتحلّق الشخصيات على مقاعد بلاستيكيّة بشكلِ دائرةٍ تقريباً يسهل معها الحوار الحرّ في مختلف شؤون الحياة، قد تكون موضوعات الأدب والثقافة هي الأكثر سجالاً ونقاشاً؛ لكنّ الأمور الأخرى ليست بعيدة عن الحوار، جلسة تحوّل الحديقة صيفاً وصالة الاستقبال شتاءً إلى ما يشبه صالوناً ثقافياً تحضر فيها المحبة والمودّة قبل كلّ شيء، ثم ما يلبث هذا الجمع أن يتفرّق وتظلّ الحديقة عابقة بأنفاس المحبة والودّ والكلام الجميل.
توازي غرفةُ الاستقبال الحديقةَ من الوجوه كافّة لكنّها بلا سماء ولا نجيل أخضر ولا أشجار تتحلّق على أغصانها الطيور، تعوّض عنها اللوحاتُ المعلّقةُ على الحائط والمكتبة والمنضدة التي ترتفع فوقها تلال من الكتب، ولكلّ مكان منهما سحره وطاقته على بعث الحياة والتدفّق والحركة والكلام، حتّى لكأنّ الضيوف الدائميّين صار لهم حقوق في مساحة الحديقة ومساحة صالة الاستقبال يشعرون بها في جوف أحاسيسهم، ولا مناص طبعاً من الطعام والمشروبات (الشاي والقهوة والنسكافيه) في الظروف التي تقتضي وعلى طول الجلسة التي تستمرّ ساعات إلى أن يقترب الليل من منتصفه.
"هو" غيرهم كلّهم لا يكتفي بهذه الجلسة المسائية شبه اليومية بل يأتي أحياناً مبكراً كي يتناول وجبة العشاء، وأحياناً ظهراً كي يتناول وجبة الغداء، فبيت فرج ياسين ملاذ حقيقيّ له يشعر فيه بالألفة العميقة الإنسانيّة والإحساس العالي بالأمان والطمأنينة والسكون، في مساحة من الأرض خارج البيت لا تلائمه كثيراً، وما أن عثر على هذه البقعة الأرجوانيّة حتّى عرف أنّها المخلّص، فراح ينتمي لها ويجعل من فرج ياسين وبيته النافذةَ الحرّةَ المطلّةَ من صُفرة الصحراء على زرقة البحر، مثّل له هذا المكان انعطافة إنسانيّة كبيرة في حياته هناك، حيث شعر فيه بأنّ شخص فرج ياسين بعمقه وحساسيته وروحه الأصيلة ومساحته الوجدانية التي لا حدود لها، وفّر له ما يحتاج بالضبط في الوقت المناسب، كان فرج ياسين القاص قاصاً في الحياة أيضاً، يتعامل مع الأشياء كأنّها كائنات سرديّة بوسعه أن يمنحها ما تحتاج في الوقت المناسب، على النحو الذي يجعل القصّة في الحياة وعلى الورق في أعلى درجات التماسك والصيرورة والتفتّح الجميل على الحياة.
تعلّمَ في بيت فرج ياسين معنى جديداً للكرم لطالما فكّرَ فيه وبحث عنه وحارَ في معناه، فالكرم عنده إحساسٌ لطيفٌ وكاملٌ وآنيٌّ بالآخر، وليس موائد باذخة ذات طبيعة احتفاليّة تُعنى بالسُمعة والدعاية والإشهار أكثر من عنايتها بإسعاد الضيف وفهمه، ثمّة روحيّة بالغة الخصوصيّة إذا ما توفّرت في صاحب البيت حضر الكرمُ بأعلى تمثيلاته الحيّة والغزيرة والخصبة، وكان هذا البيت، بيت فرج ياسين، كامل الروحيّة، بحيث لا تغيب ولو لحظة واحدة عن الحال حتّى وإن كانت الظروف أحياناً غير مواتية، وما زال هذا البيت مع بُعدِ المسافة وصعوبة الظَرف حاملاً لهذه الروحيّة في الوجدان والذاكرة والحلم.