د. محمد فلحي
التظاهرات الشعبيَّة في تشرين الأول الماضي وما بعده استهدفت تغييراً جوهرياً في النظام السياسي العراقي، وقد ضعت البلاد في أجواء أزمة قاسية ومشاهد عنف وقتل وتدمير، إذ اضطرت الحكومة السابقة الى تقديم استقالتها، وبعد الفراغ الحكومي جرى التوافق على ترشيح السيد مصطفى الكاظمي الى رئاسة الوزراء وتشكيل مجلس وزراء جديد، وهنا ينبغي أن نلاحظ الحقائق التالية:
أولاً - إنَّ رئيس مجلس الوزراء الجديد لم يصل الى منصبه عبر انقلاب عسكري أو ثورة شعبية أو غزو خارجي، ولكنه وصل عبر الآليات الديمقراطية الشكلية التي تحكم العملية السياسية منذ العام 2003 حتى اليوم، ومن أهمها التوافق والمحاصصة والتوازن الوطني الذي جعل منصب رئيس الوزراء من حصة المكون الشيعي عرفاً وليس دستوراً، ومن ثم فإنَّ الكاظمي ليس بطلاً، كما يصوره أصدقاؤه، وليس خائناً، كما يصفه أعداؤه، لكنه رجل شجاع دون شك، لأنه قبل التحدي في ساحة تسودها الخلافات والإفلاس والوباء والفوضى!
ثانياً - إنَّ الكاظمي لم يكن الخيار الأول أو الثاني أو الثالث لهذا المنصب، فقد سبقه مرشحون لم يتم التوافق حولهم، كما هو معروف، محلياً وإقليمياً ودولياً، ومن ثم فإنه يمثل خيار الفرصة الأخيرة، فرضته الأوضاع الطارئة لإنقاذ النظام السياسي من الانهيار، وهو من دون شك رجل من داخل النظام وليس من خارجه، لكنه يحاول الإفلات من ظروف المرحلة السابقة إلى مرحلة انتقالية، نحو فضاء وطني جديد.
ثالثاً - هناك تأييد شعبي واضح لحكومة الكاظمي، إلى جانب الحذر والانتظار والترقب من قبل الأغلبية، وهناك امتعاض من قبل أطراف فاعلة، وهو ما يجعل كرسي رئاسة الوزراء في حالة اهتزاز خطير، لكنه بعيد عن السقوط، لأنَّ البديل الذي يفترض أنْ يتحاشاه كل عاقل شريف، هو الاحتراب الداخلي وتفكيك النظام السياسي وتقسيم العراق، لا سمح الله.
ضمن هذه المعطيات تواجه حكومة الكاظمي خمسة تحديات مفروضة في آنٍ معاً، ينبغي عليها إدارة ملفاتها بجرأة وحنكة وسط تيارات متلاطمة وهي:
1 - الإصلاح السياسي: إنَّ التغيير الديمقراطي السلمي أصبح شعار المرحلة من خلال اختيار مفوضية انتخابات مستقلة وتشريع قانون انتخابات جديد، ومن ثم إجراء انتخابات مبكرة في الصيف المقبل. هذا الملف الشائك يواجه خلافاً سياسياً واضحاً، فاختيار المفوضية وتشريع القانون الانتخابي متعدد الدوائر يعد خارج صلاحية الحكومة، وهما موضع تجاذب في ساحة البرلمان، وهناك شكوك في إجراء الانتخابات في الموعد المحدد في السادس من حزيران المقبل، ومخاوف متزايدة من تكرار التزوير والغش الانتخابي، لا سيما إذا استخدمت البطاقة الانتخابية الالكترونية الحالية، ولم تعتمد البطاقة البايومترية المقترحة!
2 - الإصلاح الاقتصادي: يمثل التحدي الأخطر، في ظل شح موارد النفط وانخفاض أسعاره، وضرورة توفير موارد طارئة بديلة، من بينها الاقتراض لسداد الرواتب وتغطية النفقات المهمة في ظل ميزانية معطلة ومؤجلة بين الحكومة والبرلمان. في هذا الصدد، يواجه العراق وضعاً اقتصادياً صعباً بسبب انهيار أسعار النفط، وعدم وجود خطط اقتصادية بديلة، وقد أصبح أقصى طموح الحكومة توفير رواتب الموظفين، ولا خطط أو توقعات عن مشاريع جديدة، وعليه فإنَّ حكومة الكاظمي تعد حكومة إنقاذ من الغرق ولا تستطيع أكثر من إيصال السفينة وما فيها إلى شواطئ النجاة، أما الرفاهية فقد أصبحت حلماً بعيد المنال.
3 - الإنذار الصحي ومواجهة تداعيات وباء كورونا وما يتطلبه من إجراءات للحفاظ على حياة الناس: العراق لم يسجل نجاحاً حقيقياً في مواجهة الأزمة الصحية، التي تديرها لجنة عليا، أغلب أعضائها من غير الأطباء المتخصصين، لذلك يبدو الكثير من قراراتها غير مدروس، ورغم تزايد أعداد المصابين خلال الشهور الأخيرة فإنَّ لجنة الصحة والسلامة الوطنية عملت على تخفيف إجراءات الحظر، وذلك بعد أنْ فشلت الحكومة في تطبيقه في الشارع، نتيجة ضعف الوعي وعدم التعاون المجتمعي، فضلاً عن رخاوة الإجراءات القانونية ضد المخالفين، وتوظيف بعض الأطراف السياسيَّة لهذه الأزمة للمزايدات والتسقيط!
4 - الحفاظ على الأمن والنظام والسلم المجتمعي ومكافحة الإرهاب والسيطرة على السلاح: يخوض العراق منذ سنوات مواجهة شاملة ضد الإرهاب، وقد نجحت القوات المسلحة والحشد الشعبي في تحقيق نصر ساحق ضد عصابات داعش الإرهابيَّة، وذلك بمساعدة بعض جيرانه ودعم التحالف الدولي، ولكن هناك اليوم هجمات إرهابية متفرقة، في ظل انقسام سياسي حول تنظيم السلاح المنفلت والوجود الأجنبي العسكري، ولا شك أنَّ هذا الملف يعدُّ من أعقد المشكلات التي تواجهها حكومة الكاظمي، ولا ينقذها سوى التوصل الى صيغة من التوازن وسط التجاذبات والضغوطات الهائلة، وإنَّ وقوع الاصطدام بين الأطراف السياسية سوف يعني نهاية الجميع، فلا بديل سوى الاتفاق وتبريد المواقف في هذه الظروف الساخنة الصعبة.
5 - محاربة الفساد واستعادة المال العام من مافيات الفساد وتفكيك ما يسمى بـ(الدولة العميقة): إنَّ الهجوم على أوكار الفساد ورموزه قد بدأ فعلاً، هذه الأيام، لكنَّ نجاحه يرتبط بتحقيق هذه الشروط: أنْ تعلن كل الأطراف السياسية بوضوح براءتها من الفاسدين، وأنْ تشمل الإجراءات القانونية كل رموز الفساد من دون تمييز قومي أو طائفي، وأنْ تستهدف الحملة الحيتان الكبيرة والأسماك الصغيرة، من شمال العراق إلى جنوبه. وأنْ يرى الجمهور إجراءات صارمة ومحاكمات علنية ضد الفاسدين. وأنْ تستمر الحملة فلا تتوقف حتى معالجة ظاهرة الفساد من جذورها وتخليص البلاد من نتائجها الكارثية. وأنْ يشترك الإعلام الوطني في التحشيد الشعبي لدعم الحملة ضد الفساد من خلال مساندة الحكومة والإبلاغ والمعلومات ونشر الوعي ضد ظاهرة الفساد المنتشرة.
تحديات وصعوبات وتمنيات وتوقعات ترسم طريق حكومة طوارئ وضعها القدر في هذا الامتحان، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل وقوع الكارثة!