كامل فرعون
ارتبط ظهور المثقف في العصر الحديث بنشأة الدولة العراقية بدايات القرن العشرين، وأبان عن دوره في علاقته بالواقع، مسهماً ليس برفع الوعي عبر ما يبثه من أفكار، بل ومن خلال سلوكه ومشاركته في النشاطات الاجتماعية والسياسية المطالبة بتحقيق حياة إنسانية تليق بالفرد العراقي، وبإرثه الحضاري كعمق تاريخي له.
هذه المرحلة سجلت تواشجاً بين المثقف ومجتمعه، لأنه يحمل رسالة هدفها التغيير، لكن هذا التمثيل الثقافي لم يدم نتيجة للتحولات التي شهدها الواقع، تلك التغيرات السياسية التي أفرزت المثقف المؤدلج، بعد إشاعتها للمشاعر السياسية سواء كانت قومية أو طبقية أو عنصرية، فشحبت تبعاً لذلك علاقة المثقف بواقعه، محقّقاً تخلّيه عن ارتباطاته السابقة، وساعياً لترتيب مصالحه الشخصية، ليكون ذلك بداية الانجرار لأهداف ضيّقة تجرّده من مسؤوليته الحقيقية، وتطمس عنده نكران الذات.
استطاعت الانظمة القومية التي مارست الحكم في مراحل معينة من تاريخ العراق، بضم العلماء والأدباء والمفكرين إلى مشروعها السياسي، من أجل بناء شريحة تتبنّى الدفاع عن قيمها وأفكارها وتعمل على تثبيتها بين أفراد المجتمع، فحدث التصاهر بين هذا العمل وطموحات المثقف المادية، بعد ابتعاده عن صور تمثيله السابقة، فأمعن في توغّله للإعلان عن تلك المعايير، ودافع عن كل أشكال الظلم والتعسف، بما في ذلك تأييده للحروب التي أقدم عليها النظام، متصدياً لمعارضيها والمعترضين على زج المجتمع في مواجهات خاسرة، من أجل أن ينعم بعطايا السلطة وهداياها.
هذا المثقف الذي ذكرنا جزءاً من سلوكه، اختلفت الآراء حوله، واجتمعت على ضرورة وجوده، لعدم تصور وجود مجتمع بلا مثقفين، مع أن الناس كلهم مفكرون، إلا أن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها الناس جميعاً- كما يرى غرامشي- نظراً لعمله في مجال إنتاج المعرفة ونشرها، وهو عمل لا يجيده الكل، لما يتصف به من مزايا، تجعله ملزماً بتجسيد سلوك ما أو موقف أو التعبير عن فكر أو فلسفة، الطريق الذي يؤدي إلى السجن أو الإعدام.
إزاء هذا التصوّر للمثقف، ومن أجل فحص طبيعة العلاقة بين ما ينتجه واستجابة متلقيه، نجد كثيراً من الأعمال الأدبية في مجال الشعر والرواية والقصة القصيرة وغيرها، يكون فيها الكاتب قد خرق ميثاق العلاقة بينهما، لأسباب تتعلّق بمصلحته المادية، والتي دفعته إلى توسيع الهوّة، وخيانة شعبه في الدفاع عن الخير والعدل والمساواة، ومجابهة الظلم والجور، وابتعد عن كونه منتجاً للجمال، وأسلم ذاته للترويح عن القبح والشر.
بعض المثقفين الذين غرقوا في مستنقع السلطة، واستطاعوا بعد زمن من الهروب أو الهجرة إلى دول الغربة، ولأنهم يدركون ما تركوه من أثر سيئ في نفوس أبناء جلدتهم، قدموا اعتذارهم للتكفير عما ارتكبوه من ظلم بحق مجتمعهم وشعبهم، مع أهمية هذا الاعتراف وضرورته، لكنه من زاوية أخرى هل يعيد ما فقد أو يرجع ما سلب؟
لقد قطعت خيانة المثقف لواقعه كل ما من شأنه أن يعيد الثقة أو يرمم بعض أجزائها، فالمسافة بين المثقف المتهم بالتخلي عن دوره ومسؤوليته وبين القارئ الذي وضع ثقته به، بتقديري أضحت بعيدة جداً.