عمر السراي
من الممكن عدّ الخيانة الثقافية في المصاف الأولى على سلّم الخيانات، فالخيانة المادية تؤثر بمستوى محسوس وسريع الانتهاء، أما الخيانة الثقافية، فتظل تؤسس لتقاليد سيئة تسيء لتجربة حياة كاملة.
عراقياً.. أبرز ما يمكن تصنيفه ضمن خيانة المثقف، ولاء بعض النخب للديكتاتورية، إذ كيف استطاعت مجموعة من حملة الأفكار والأقلام، أن تكون كلمة باطل في زمن الظلم، ولم تكتف بذلك، إنما امتد تأثيرها لتكون نقطة جذب تارة، وتهديد تارة أخرى، لوضع بصمتها التي تقمع الجميع، بدفع من قوى السلطة السيئة.
إن التطبيل لمنجزات حاكم قاتل خيانة، وإلى الآن، لا أعرف كيف استوعبت شخصيات ثقافية أن تكتب وتمجّد الجلاد، وهي ترى شباباً تعتقل ومقابر جماعية تنتشر، أما الخيانة الراسخة، فهي أن يبيع من يتخذ من الثقافة طريقاً له صوته، ليكون واشياً للسلطة ليتقرّب أكثر، ويدوس على زملاء ورفاق، فثمّة شخصيات تسابقت مع أخرى لتمتاز عليها بكثافة تملقها للرأس الفاسد للنظام. والأمر قد لا يغادر منطقة التجربة وإبداعها، فمما لا يبتعد عن الصواب قولنا: إن الشخصيات الثقافية المنقوصة التجربة تميل إلى اختلاق أكاذيب تدعم وجودها، وبيع ذمتها الأخلاقية أكثر ما يمكن ان يكون.
سياسة التملق
وتستمر سلسلة الخيانة الثقافية، لتجد بعض الشخصيات نفسها، ممن عرف عنها سياستها المتملقة سابقاً، تعود لتمارس بيع الضمير الثقافي المفترض لدى كل حامل معرفة، فتندرج هذه الشخصيات ضمن أحزاب ظلامية، وسلطات غاشمة، بل تتبجح بقربها من مسؤول معين، ويا لكثرة هذه الشخصيات.
يخون المثقف وطنه والمهمة الموكولة به، حين يزيف الحقائق من أجل تكوين منظومة تعيد مجده، وتدفعه الى الواجهة، ومحض تبديل المواقف نحو الظلم السائد هي خيانة لا تغتفر. وجود المثقف لا يرتبط بتقديم مائدة جمالية فحسب، فهو مؤسس فكر راسخ يستمر ويعلو، ويتكاثف مع مرور الزمن، وعدم قدرة المثقف على استلهام مشروع خالد يعلم الأجيال أمر يجعله في خانة لا تليق بدوره الذي يُنتظر منه، لذا.. نرى أن مجموعة كبيرة من التجارب، ظهرت وأفلت، وهي لا تعدو أن تكون بدرجة موظف صغير في حياة وجدت ليكون حامل المعرفة قائدها، لا مكرّساً لأخطائها.
لقد دأبت الأنظمة الديكتاتورية بشتى أنواعها، على تدجين الأصوات الثقافية، بالإغراء والتهديد والشراء والتغييب، والملاحظ أن السلطات مارست على مر تاريخها الاغتيال الجسدي والرمزي لكل من لم يمثل توجهها.
والآن في زمن الإعلام والسوشيال ميديا، الملاحظ أن أبرز خيانة اندرج فيها بعض المثقفين، هو الإسهام في تكوين وهم السلطة لدى المتلقي، فنظرية تسويق الخراب، وتجميل الخطوات غير النافعة، والعزف على أوتار مقطوعة لرؤوس سياسية، والانجرار نحو استغلال قيمة الكاتب أو الفنان ليكون ما يشبه الجيش الالكتروني، كل ذلك يصنف أقلاماً في خانات لتسجل خائنةً للحقيقة.
الضد النوعي
على المثقف أنْ يمتلكَ حساسيةً مفرطة لدرجة أنه يحاسب نفسه على كل ما جرى، فكونية شعوره إزاء الأشياء تقوده للعمل وإيجاد الحلول، وتقديم الرؤى، وهذا ما ظل ضعيفاً في جوانب عدة، ولعل من أبرز أسباب ضعفه، وجود شريحة كاملة تابعة للمسؤول، تمثل الضد النوعي للمثقف الناقد، وهذه هي مناطق رخوة في جسد الثقافة التي لم تقتنع السلطات الباطشة يوما بها، بوصفها بوصلة للحل والنقاش.
حين نتصفح تاريخ الأدب، نطلع على نماذج من الممكن استلهامها لعصمة الحركة الثقافية من الوقوع في الزلل، وأبرز النماذج الجماعية تمثلت في تأسيس أكاديميات مستقلة، دأبت عليها دول متقدمة وراسخة في مجال الفكر، وسر نجاح هذه الأكاديميات استقلالها، فكانت آراؤها سديدة وموجِّهة ومقلقة للنسق الفوقي الضاغط الذي تمثله الحكومات، وقد فشلت المنطقة العربية في استلهام هذه التجربة إلى الآن، وبقيت المحاولات فردية، والمحاولة الفردية مهما علا تأثيرها، ستظل محدودة الانتشار.
الوطن بحاجة لتقاليد ثقافية، وورش تعلّم الولاء للخط الثقافي المستقل، وتبعد المثقف من أن يكون حجارة صمّاء في جدار السواد الكبير الذي تصر على تقديمه الأصوات النشاز، لتدعم مصالح لا تضع للثقافة حسباناً أو اهتماماً، كما أن الشرائح المجتمعية بحاجة لبث أصوات التثوير وإعادة قراءة المشهد وتشكلاته التي أفرزت عن تكوين تقاليد غير سليمة، تقود إلى اعتبار سياسة التملق هي السائد، وما عداها يظل هامشاً كبيراً مرفوضاً ومقموعاً.