ناظم عودة: خيانة المثقف تتمثل في التخلي عن دوره في صناعة الوعي

ثقافة 2020/09/29
...

حاوره: صفاء ذياب
مثلما قدّم الناقد الدكتور ناظم عودة خطابه الأدبي المتمثل في عدد من الكتب المهمة، مثل الأصول المعرفية لنظرية التلقي، وتكوين النظرية، وجماليات الصورة، غير أنه معني بالمثقف وتحليل خطابه وفهم مفاهيم الخيانة التي يصوّرها خطاب المثقف وحياته، فأصدر أكثر من كتاب في هذا، منها: الهيمنة الرمزية واللغة المقنعة.. هذه الإصدارات جعلت من عودة أحد المثقفين والنقاد المتابعين لتحوّلات المثقف عراقياً ومحاولته لتقديم فهم مختلف عنه.. عن هذا كان لنا معه هذا الحوار:
* كيف نفهم الخيانة ثقافياً؟ وهل لها علاقة بمفهومها سياسياً؟
- أيّة مراجعة نقدية لدور المثقف العراقي في هذه المرحلة المظلمة من تاريخ العراق، ينبغي أن تنطلق من مراجعة لمشكلات المجتمع ونمط الثقافة التي جرى إحياؤها لفرض الاستحواذ والهيمنة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وفي خضمّ هذا الهوس بإحياء التاريخ المتنازع عليه تخلّى معظم المثقفين عن إنتاج خطاب يقوم على التحليل والتفكيك واختيار المسار النقدي والمساهمة بالإصلاح التنويري الذي يحرّر المجتمع من هيمنة السلطة الدينية، وبات الأمر الأكثر إلحاحاً هو أن يتحرّر المثقف نفسه من المهيمنات الفكرية التي تتحكم به وتقيد حريته وتعيق تحقيق رسالته وهي ردم الهوة بين المجتمع والثقافة التنويرية والتواصل مع الفكر الحر وتحطيم حواجز العزلة والتراتبية النخبوية وتبني خطاب العقلانية والنقد والعلم ونبذ خطاب الخرافة والتفسير السلفي للتاريخ.
بخصوص السؤال، دعنا نتجاوز التحديد المدرسيّ لكلمة الخيانة، ونتحدّث عن أشكالها وتأثيراتها، ذلك أنّ عدم صيانة العهد الأخلاقي المفترض بين المثقف والمجتمع الذي ينتمي إليه هو خيانة وجرح أخلاقي نتيجةً لتخلي المثقف عن المجتمع الذي تنهشه سلطات ظلامية تسعى إلى الاستحواذ عليه روحياً ومادياً. وبطبيعة الحال، كلما اقترنت الخيانة بالمجال العام كالمجتمع والأمة كان وقعها أشدّ وكثافة تأثيرها النفسي كبيرة.
 وهكذا سقط المثقف العراقي مرة أخرى في التخلي عن دوره ورسالته في صناعة الوعي، وعن دوره في المشاركة في صنع اللحظة التاريخية أعني تحرير العقل الاجتماعي من قوى الاستحواذ التي تخادعه وتستلبه بمفاهيم دينية ذات تأثير عاطفي ووجداني، وإنقاذه من السقوط الجماعي في ممارسة الهلوسات الخرافية التي تفعل تأثير المخدّر في عدم صحوه من سبات عقلي طويل، وبالتالي أعاقته من تكوين رؤية عملية وتصور موضوعي لواقعه وحياته وللأشياء والأحداث المؤثرة في وجوده ونمط حياته، فالمجتمع الذي خرجَ محتجاً على تردّي الأحوال السياسية والاقتصادية، خُذِلَ من معظم المثقفين الذين أحجموا عن المشاركة:
 الفعلية، أو المعنوية في الحراك الشعبيّ، وخُذلَ في صمت المثقف عن عمليات التعذيب والاغتيال التي طالت الناشطين والمثقفين الذين انتهجوا سبيل النقد وكشف الحقائق. وهكذا انقسم المثقفون حول الحراك: إما إلى معارض لا يكفّ عن مهاجمته عبْر تلفيق التهم والأوصاف المحرّضة على المحتجين، وإما إلى مساند مشارك في كشف الدوافع الرئيسة للحراك وفضح الجهات التي تقف وراء تردي الأوضاع، وإما إلى صامت لا يفصح، ينتظر أيّ كفة تميل ليميل معها.
إن فهماً أوضح لمعنى الخيانة الثقافية، يتبدّى عندما اشترك معظم المثقفين في تكريس الهوس الجماعي لإحياء خصومات التاريخ، وبالتالي تكريس ثقافة سلفية، وأسميها ثقافة تجوّزاً، لأن الثقافة هي تنوير للعقول لا تكبيلها وسجنها في مفاهيم رجعية وأفكار تعيق عمل العقل الحرّ وتعيق الإيمان بقيم العلم والمعرفة، وهذه بطبيعة الحال خيانة لمبدأ العقد الأخلاقي بين المثقف ومجتمعه.
 والطامة الكبرى هي أن عدداً من المثقفين أخذ بالنيابة عن السلطة يسوّغ أفعالها وسياساتها، وثمة من تبنى خطابها وسار في ركبها وقبل بمركز التابع لها والمستفيد من امتيازاتها والمسترزق من عطاياها.
وبطبيعة الحال، تخلّى المثقف عن دوره ووظيفته، وخان عهده في أنْ يكون رائد التنوير والتغيير والإصلاح وفي تحقيق القيم التي طالما تطلع إليها المجتمع، وأعني قيم الحرية والديمقراطية والعدالة والرفاهية والتقدم. فالتخلي سوف يفضي إلى القضاء على هذه التطلعات المشروعة، ويّئِد تماماً هذه القيم والأحلام التي نزف العراقيون كثيراً في سبيل تحقيقها.
 
* الخير والشر مفهومان مطاطان، فما هو خير في زمن ربّما يعد شرّاً في زمن آخر، وهو ما ينطبق على الشر أيضاً.. فإلى أي مدى يمكن فهم الارتباطات الثقافية من جانبي الخير والشر؟
- بصرف النظر عن النسبية في إدراك مفهومَيْ الخير والشر، وإنهما مفهومان نسبيان يتغيران من إنسان إلى آخر، فإنّ المعيار لتحديدهما هو المنفعة والمصلحة العامة ضمن شروط التنوير والتحرير والتقدم، وليس ضمن شروط الثقافة الرجعية التي لا تستوعب قيم العقل والعلم والتقدم والمستقبل، وتجعل المجتمع يدور في حلقة مفرغة من الماضي باستحضار ذلك الجزء الكثير، المشكلات والخلافات والتنازعات . وعليه، فإنّ تخلي المثقف عن دوره ورسالته، هو فعل وموقف لا نفع يعود على المجتمع من ورائه، ولا مصلحة فيه. ثمّة عاملان أساسيان في كل من يسمى مثقفاً، وهما: 
 التكوين المعرفي الحقيقي، والموقف من القضايا الكبرى التي يمرّ بها مجتمعه. فالتكوين المعرفي الحقيقي يتيح له ممارسة نقدية للسلطات بشكل عام، وللقيم الزائفة التي تحاول السلطات الظلامية غرسها في المجتمع، وتمكنه من القيام بدور تربوي وإصلاحي وتنويري.
 أما الموقف فهو إعلان انحيازه لقضايا الجماهير ومناهضة وسائل القمع والترهيب والفساد وكتم الأصوات الحرة المطالبة بالإصلاح والتغيير. وهذا الانحياز لا تساوم فيه، ويعتبر معياراً للوطنية وعدم خيانة العهد الضمني بينه وبين المجتمع، وهو معيار للخير. والثقافة، هي فعل لا يختلف عن بقية أفعال الإنسان، يمكن تصنيفها كفعل ينتمي إلى الخير أو الشر بحسب الالتزام بقضايا المجتمع المصيرية أو عدم الالتزام، وبحسب الدور الذي تلعبه داخل البنى الاجتماعية والوظيفة تؤديها والرسالة التي تتطلع إلى تحقيقها.
 وهنا يلزم أن نتساءل أين المثقف العراقي من كل الفاسدين الذين تسببوا في احتلال ثلثي العراق من قبل عصابات داعش، وتسببوا في مجزرة سبايكر، وتدمير الموصل وتكريت والأنبار وغيرها من المدن العراقية، وتسببوا في تفريغ الخزينة العراقية ونهب الثروات، وتسببوا بتدمير الصناعة والزراعة والتجارة والتعليم وغير ذلك؟ أين صوت المثقف الذي انتقد المثقفين الذين كانوا تابعين للنظام السابق، وها هو الآن لا يختلف عنهم، تراه يلهث خلف الامتيازات والمناصب، متخلياً عن أخلاقياته في صون العهد بينه وبين المجتمع.
سبعة عشر عاماً ونيّف مضت حتى الآن منذ سقوط سلطة البعث ونظامها الدكتاتوري، وخلال هذه الأعوام تلاشت كل الأحلام والتمنيات الملونة التي حلم بها المجتمع في التغيير الحقيقي وقيام دولة عصرية تتحقق فيها قيم الحرية والعدالة والديمقراطية، تلاشت الأحلام أمام أعين المثقفين وشهدوا انحراف تلك القيم وتدمير هوية البلاد بحجة علاقتها بالنظام السابق. 
 
* كانت وما زالت علاقة المثقف بالسلطة إشكالية، وخير من مثّلها أرسطو وصولاً إلى وضعنا الراهن، فهل يمكن فهم أية علاقة هي من باب الخيانة الثقافية؟
- لاشك في أن علاقة المثقف بالسلطة علاقة ملتبسة، فهي ليست علاقة بريئة مطلقاً، ذلك أنّ السلطة في بلداننا تسعى إلى فرض السيطرة بالقوة والإكراه، مرتكبة خروقات عديدة للدستور والقانون، وتتبع مع المثقف سياسة الاستقطاب فهو أمام خيارين: إما التبعية لها والتخلي عن العهد، وإما الإذعان إلى بطشها وتهميشها، وقد عانى المثقفون الأحرار معاناة عصيبة مع الأنظمة الاستبدادية التي أرادت أنْ تسند للمثقف وظيفة الترويج لأفكارها وتحشيد الرأي العام طبقاً لتلك الأفكار، وجعْل المثقف نافذة تتسلل السلطة من خلالها إلى وعي الجماهير. وفي مقابل ذلك، ثمة من خان العهد الافتراضي ورهن فكره وقلمه للسلطة وللالتزام الحزبي، وكان لهذا التصرف آثار سلبية في تأجيل حصول المجتمع على حريته وحقوقه.