العراق: القوة.. العنف.. الاستبداد

آراء 2020/09/30
...

  د. علاء حميد إدريس* 
 
ربما لا نملك توصيفاً واضحاً لملامح الفكر السياسي في العراق، وقد نبالغ اذا قلنا بأن هناك فكراً سياسياً، لأن الموجود مجرد ممارسات، وبعض ما كتب من تصورات ارتبطت برؤى عقائدية وحزبية، إذ اننا حين نطلق هذا التوصيف نصبح أمام مطلب الاشارة الى مصاديق هذا الفكر من نصوص وتوجهات فكرية ومقولات مرت بجدل ونقاش بين حاملي هذا الفكر، ومن تأثروا به ومخالفيه.
وعلى الرغم من أن الصراع في العراق بشقيه السياسي والاجتماعي قد وقع تحت تأثير موجهات فكرية وسياسية، لكنها لم تكن متأتية من سياق عراقي واضح، وهذا يمثل إحدى المشكلات التي عطلت السعي نحو تكوين ملامح هذا الفكر السياسي، اذ إن فقدان الخصوصية راجع الى إهمال الهوية ومكانتها عند فئات وشرائح اجتماعية متنوعة في المجتمع العراقي، ويتجلى هذا الاهمال بعدم الالتفات نحو قبول أو رفض تلك الفئات لما يعرض عليها من أيديولوجيات وتيارات سياسية، مع ذلك لم نكن نواجه صراعاً بشأن ثنائية "الاصالة والمعاصرة"، إذ مع وجودها، قد تدفع بقبول تيار سياسي على حساب آخر، بمعنى آخر؛ سوف يصبح تفضيل تيار إسلامي دون تيار قومي والعكس صحيح منطلق من هذه الثنائية، وإنما ظل الانحياز والانتماء الى أي من التوجهات السياسية، محكوماً بعوامل متداخلة خارجية مع استعداد داخلي أنتجه الواقع الاجتماعي الموجود آنذاك، والذي هيمن عليه أسلوب الفعل ورد الفعل، وهذا ما يفسر أن الهوية لتلك الفئات العراقية أصبحت معبأة بمقولات كليّة، سواء كانت "ماركسية، قومية، إسلامية"، لم تكن تهتم بما هو داخلي محلي، فمثلاً عمل التوجه الماركسي على طرح نموذجه النظري والعملي من خارج السياق العراقي، وبذلك تخطى الخصوصية الاجتماعية والثقافية، وهذا ما قام به ايضاً التوجه الاسلامي، اذ انشغل بهاجس الأمة الاسلامية على حساب الحاجة الى دولة، والامر نفسه ينطبق على التوجه القومي الذي انغمس في معنى الأمة العربية دون الالتفات الى خصوصيات المجتمعات العربية، وتعارض القومية المطروحة مع النزعة الوطنية، والتي كانت تعاني من عدم الاكتمال والتبلور.
لقد جاءت لحظة 2003 لتزيد من انقسام وتجزؤ الهوية العراقية، وتظهر الكامن فيها من انتماءات وانحيازات عززت فاعلية المذهبية، الفئوية، المحلية في صياغة سماتها ومضمونها الاجتماعي بعد تغيّر النظام، وعلى الرغم من أن الهوية العراقية قبل 2003 بُنيت على أسس عدة كان ابرزها العشيرة، الحزب، الايديولوجية، ثم حازت بعد ذلك الأسرة وشبكة المصالح التأثير الملموس في تكوينها، عمل النظام السابق بشكل دائم على منع تشظي معانيها من خلال انتاج عدو خارجي وداخلي وتأجيل انتقال الصراع من جانبه السياسي الى الاجتماعي، ولذلك تمكن النظام من ممارسة عملية صهر اجتماعي وثقافي بأدوات سياسية عبر نظام من الرقابة على الحياة العامة، نجح في بناء ردع ذاتي أوصل أفراد المجتمع العراقي الى مرحلة تكوين رقابة ذاتية على أنفسهم، ونستطيع أن نلمس خطوات هذه الرقابة الذاتية في ما كتبه وحلله كنعان مكيه في كتابه "جمهورية الخوف" الصادر عن دار الجمل العام 2009، إذ نكتشف أن نظام الرقابة أمسى قائماً على مبدأ "الكل يراقب الكل".
عمقت هذه التحولات من صعوبة قيام فكر سياسي عراقي، وأصبحت العوامل الثلاثة "العنف، القوة، الاستبداد" هي البديل عما كان من المفترض أن يتحقق من ظهور هذا الفكر وخطابه، ولقد تحولت تلك العوامل منذ العام 1936 الى الاطار المتحكم بأغلب الصراعات حول السلطة، وما يترتب عليها من تواصل وعلاقة بالمجتمع، والغريب أن القوى السياسية التي عرفها العراقيون والتي امتلكت القدرة على التعبئة، ومن ثم الوصول الى الحكم، أسهمت بشكل واضح في تعزيز حضور العنف، القوة، الأستبداد، وهذا ما جعل من يروم التغيير السياسي يكاد يؤمن بهذه العوامل، وينظر لها كخيار عملي ومنجز ووحيد. ولذلك بات من يحاول الاسهام في تثبيت ملامح فكر سياسي خارج هذه العوامل أمام مأزق تحديد الاصول التي استند اليها أو التسليم بمحددات العنف، القوة، الاستبداد، والتي أخذت تحتل مكانة واضحة في قناعات العمل السياسي، وما يترتب عليه من مشاركة بالسلطة والميل نحو توجه معين.
 
القوة: الشكل والمحتوى:
يمكننا نلحظ أن القوة حضرت في العمل السياسي منذ أربعينيات القرن الماضي، اذ أثرت تجارب لنظم سياسية أخرى على ذهنية المتلقي السياسي العراقي، والذي بانَ في تجربة الفتوة التي طرحها سامي شوكت " 1893 - 1987" أحد مؤسسي نادي المثنى "1935 - 1941" ذو التوجه القومي، متأثراً بنموذج شبيبة هتلر، وزاد تنامي ممارسة القوة بعد العام 1958، عبر ظهور العديد من التشكيلات شبه العسكرية التي مارست دوراً امنياً وايديولوجيا، إذ انه في 1958 - 1959 تم تأسيس أفواج المقاومة الشعبية، ثم بعد ذلك ظهر تشكيل الحرس القومي عام 1963، وأعقب هذين التشكلين الجيش الشعبي العام 1970 - 1991.
ويضعنا نشوء هذه الكيانات امام تساؤل من يمتلك القوة في المجتمع العراقي؟ لعلنا نصل الى تصوّر مقبول عن تكرار ظهورها، والذي ربما يشير الى ارتباط امتلاك القوة بالغلبة في السياسة وادارة السلطة، المفارقة أن من امتلك السلطة منذ 1958 ولغاية اليوم لم ينجح في نقل القوة واستعمالها الى حق الاكراه الخاضع للقانون، فمع كل تكوين جديد للسلطة تبقى القوة حاضرة بشكل مواز ومباشر من استعمال السلاح والقدرة على احتكار الامكانيات خارج ضبط المؤسسات الرسمية، ولا يمكن ردع هذا التوظيف للقوة الا بالعرف الاجتماعي الذي تمتلكه العشيرة، ولقد أمست القوة معياراً يكشف عن مدى قدرة من يحكم السلطة على الامساك بها - القوة – ووضعها في سياق مؤسسي قائم على التشريع، وما يتوقف عليه 
من حقوق وواجبات.
وتقودنا معضلة القوة وما تمثله من قيد على ادارة الحكم، الى السؤال عن العقلانية وتمثلها في المجتمع العراقي، وهل كانت حاضرة عند الذين عملوا في السياسة ووصلوا الى مؤسساتها؟. قد لا نستطيع ايجاد ما يدعم العقلانية وأثرها في سلوك من مارس العمل السياسي حين نراجع تاريخ العراق السياسي، وهذا يؤكد أن الفكر السياسي ظل بعيداً عن بناء الاصول التي تميزه وتمنحه الخصوصية والفاعلية التي توجه العمل السياسي.
 
العنف: جدل الذاتي والموضوعي:
يمكن لنا القول إنه منذ تسعينيات القرن الماضي، اتسع الجدل بشأن أصول العنف في العراق، هل هو متأصل في الثقافة والشخصية العراقية أم طارئ متعلق بما تفعله السلطة والمحيط الاقليمي والدولي المؤثر في العراق مجتمعاً ودولة؟. 
تضعنا مراجعة التاريخ العنف وأحداثه عند تصوّر أولي مفاده بصعوبة الفصل بين الذاتي والموضوعي في تفسير أسبابه، لأننا نواجه تعدداً متداخلاً في الدوافع التي تظهره وتحوله الى وسيلة لنيل التغيّر السياسي، وعلى الرغم من ميل أغلب من تناول العنف وتاريخه في العراق الى حصره في ثلاثة أسباب "نفسية، دينية، سياسية"، فقد تتغير الأسباب حسب ما جرى في التاريخ العراقي منذ نشوء النظام السياسي ولغاية الآن، ولكن قد نستطيع مقاربة ظاهرة العنف ضمن ثنائية "المثير – الاستجابة" التي قدمها عالم النفس الروسي بافلوف "1849- 1936"، اذ يعبر المثير في السياق العراقي عن اللا استقرار واضطراب حال النظام والدولة، أما الاستجابة فهي العنف الذي يرافق كل حدث او تحوّل في الوضع السياسي والاجتماعي، وهناك ما يؤشر لتحقق هذه الثنائية بدءاً بانقلاب بكر صدقي العام 1936، وحركة مايس 1941 
وتغيّر 1958.
ويشير الوردي في طروحاته الاجتماعية، الى ظاهرة الشقاوات وكيف كان لها دور في ممارسة العنف تجاه الغريب والدخيل في مقابل منح الامن والرعاية للمحلات البغدادية، ربما يمكننا فهم وتحليل هذه الظاهرة في ضوء ملاحظة الاساليب التي تشكلّت فيها توجهات العنف وشرعية استعماله، وقد انتبه البعثيون الى اهمية احتكار العنف وتعاملوا معه من خلال امتلاكه وحصره بيدهم مع إقصاء كل جهة لديها امكانيات 
ممارسته. 
 
بعد 2003 : ما نحن عليه 
لقد تشظت عوامل القوة والعنف والاستبداد بين القوى التي حكمت العراق بعد تغير النظام السياسي، ثم بعد ذلك أخذت تنشأ قوى موازية لها لكي تنافسها على ما جلبت من شرعية تاريخية ومذهبية، وهذا يجعلنا نؤشر أن الضبط الاجتماعي والقانوني لم يعد بيد السلطة، وأنما أصبح بيد جماعات وقوى حصلت على عوامل القوة والعنف والاستبداد.
* باحث انثروبولوجي