قرية اللغات!

آراء 2020/10/01
...


جواد علي كسار
 
استقر في بريطانيا من نحو ثلاثين عاماً ولا يزال، وقد ذهب إلى هناك بقصد الدراسة والعمل. حين عاد مرّة إلى بلده لاحظ أنَّ ابنة أخته الفتاة الطموحة، أفضل مئة ثلاث مرات في إتقان الانكليزية قراءة وكتابة، إذ استطاعت أنْ تترجم كتابين برغم أنها لم تُغادر بلدها الذي وُلدت به، بل حققت رغبتها في تعلم الانكليزية بجهودها
الذاتيَّة.
الحقيقة لا تعكس هذه الملاحظة حالة فردية، بل هي ظاهرة تكاد تكون عامة في علاقة العراقيين المهاجرين مع لغات البلدان التي عاشوا بها. فمنذ أول ثمانينيات القرن الماضي، عندما انطلقت الموجة الأولى من الهجرة خارج العراق، ثم الموجة الثانية بعدها بعقد، والموجة الثالثة بعد السقوط، ولا تكاد تجد بلداً في قارات العالم، لا يضمّ جالية 
عراقيَّة.
لكن رغم هذا الانتشار الواسع كانت واحدة من مشكلات الجاليات العراقية ولا تزال، هي مشكلتها مع اللغة، لا سيّما الجيل الأول. فترى العراقي يعيش أكثر من عقدين في إيران، لكنه يجهل لغتها، بل قد يفتخر أنه لا يتكلّم الفارسية، فضلاً عن أنْ يقرأ بها ويكتب. وكذلك حاله مع لغات البلدان الاسكندنافية، وفي أوروبا الشرقيَّة والغربيَّة وروسيا، وكندا وأميركا.
لا تعكس هذه الحالة مؤشراً على الغباء كما قد يتوهم البعض، بقدر ما هي مشكلة نفسيَّة، تؤشر إلى خطأ تربوي واجتماعي. عدم تعلم اللغات في مجتمعات الهجرة له دلالة عميقة، على حالة الانعزال والرغبة في الانفصال التي تعيشها الجاليات العراقية في مهاجرها، والتقوقع داخل «كانتوناتها» الخاصة، مصحوبة بحنين جارف إلى الوطن، يمنعها من التواصل مع مجتمعاتها والانفتاح عليها. ولذلك صارت الهجرات العراقيَّة، أكثر الهجرات فقراً، وأقلها نفعاً لبلدانها.
قرأت للجميلة تشيلسي في مذكرات والديها بيل وهيلاري كلينتون، تجربة موحية في تعلم اللغات دون الاضطرار للسفر إلى الخارج. فقد أقيم بشمال مينسوتا معسكر لتعلم اللغات، على شكل قرية تماثل قرى البلاد التي يتعلّمون لغاتها. عندما يدخل الشاب هذه القرية يأخذ اسماً جديداً، من أسماء البلد الذي يريد تعلّم لغته، ويُزوّد بعملات ذلك البلد، ويمارس حياته اليوميَّة مع مجموعة مختارة من أهل تلك البلدان، بحيث يتحدّث لغاتهم ولهجاتهم ويتجاوب مع ثقافتهم وعاداتهم وأعرافهم، على امتداد مدة المعسكر التي تتراوح بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع، وتتكرّر الدورة أكثر من 
مرّة.
اختارت ابنة الرئيس الأميركي الأسبق المعسكر الألماني، ودخلت القرية الألمانية لأنها تحب اللغة الألمانية، وقد كان إلى جوار ذلك قرى للغات الأوروبية الغربية والاسكندنافية، إضافة إلى الصينية واليابانية، وأعتقد أنَّ في تجربة قرية اللغات ما يفيد بلدنا، في بناء طواقم تنفتح على بلدان العالم وتتواصل معها عبر لغاتها!