د. نازك بدير*
كأنَّ الأوطان العربية ارتبطت عضويًا وجنينيًا بالدول الغربية، فهي لا تكاد تعرف الاستقلال عنها، أو الانفلات منها، أو الانعتاق من شركها، قد أصيبت بلوثة حبّ الجلاد بوصفها ضحية من ضحاياه. منذ جذور التكوّن الأولى، تقدس جلادها، وهي تلهث خلفه، حتى أنّها تكاد تؤلّهه، وتقدّم إليه القرابين، لا من مواردها الاقتصادية فحسب، بل تدفع الضرائب أيضًا، ولا زالت الفتن والانشقاقات في صفوف مواطني البلد الواحد، والحي الواحد، والشارع الواحد.
ولو تساءلنا ما الذي أدى إلى اهتراء هذه البنية الداخلية في المجتمع العربي بشكل عام، وسرعة انحداره باتجاه القاع، لوجدنا أن ثمّة عوامل جوهرية تعود إلى تركيبة البعض الذي يحتقر نفسه، ولا يثمّن أعماله وجهوده النابعة من ذاته، بل يزدريها ويحتقرها، ويسخّر طاقاته لإغراقها.
وعلى نحو آخر، مهما كان صغر حجم المبادرة الخارجية وهشاشتها، تراه يمجّدها على حساب العوامل التي تصدّ عنه سهام التيارات الداخلية.
ونحن نرى المسؤولين العرب، كما بعض المواطنين، يقدّمون كل ما يملكون للجلاد، وكأنهم يبحثون عن لذة مفقودة تتحقق في كونهم ضحية عريقة.
هذا الخضوع أمام السلطة الخارجية، والتخلي عن الدور الفعال في الإدارة، والانسحاق تحت أقدام الآخر، ظاهرة ضاربة القدم في تاريخ الشعوب العربية التي باتت خبيرة في تناوب عبادة الأصنام، وتأليهها، تتفنّن في تقديسها. ولا يقف الأمر عند الأصنام السياسيّة، إنما يتجاوزها ليصل أبعد من ذلك بما يخدم مصالحها، ويضمن بقاء الشعوب رعايا تقاد بالغريزة، وتُحكَم بالولاء والخضوع، حتى بلغ إدمان الصنمية العربية حدًّا جعل الواحد منهم يأنف أن يتحرّر من قيوده، ويتعبّدها طمعًا ببقاء الجلّاد والصنم الذي تمّ تقديسه في لحظة ما، سيبقى الى الأبد يمسك بأعناقهم المشرئبة نحو رأسه وفمه، وكأنّ الأرض العربية لم تنجب غير هذه الأصنام القليلة المتناوبة على كرسي العرش، فالضحايا بأميّتهم المجيدة، لم يعرفوا غير هذا الصنم المبجّل الذي استولى على الإرث المضيء، واستثمره لتركيع ضحاياه.
وما تتم ملاحظته أنّ الاختلاف، في الأعم، يتمحور حول ما يختص بالداخل، إذ تكون القضايا الداخلية مثارًا للشقاق والنزاعات، ويرفض ما فيه خير الوطن ومصلحة أهله.
ومن ناحية ثانية، يكون الإجماع حول الالتفاف صوب الخارج، وإحكام سيطرته على مفاصل الحكم ومراكز القرار، تارة بداعي الرعاية، وتارة أخرى بداعي حماية السلم الأهلي.
الذات العربية. حالها يُشبه حال أوطانها المنقسمة على نفسها، المرتدة على تاريخها، ذاتٌ مشوّهة من الداخل، تلجأ إلى لعبة الخارج، فتتشرذم مجدّدًا من الداخل، لتستمر في تمجيد الأميّة الواحدة، في رسالتها الخالدة.
*كاتبة وأكاديمية لبنانية