فوتوغرافيا فاجعة الطف أنموذجاً

ريبورتاج 2020/10/05
...

خليل الطيار
فرضت مأساة بحجم فاجعة الطف أحداثها ومكانتها بقوة على تفاعل أغلب أجناس السرديات ومساحة الفنون التشكيليَّة والبصريَّة، ومنها المسرح والسينما. وتجاوز الاشتغال على موضوعتها حدودها الزمكانيَّة، لتتجذر في إرث ومنجز الأدب والفن العربي والعالمي، مستقرئاً البعد الإنساني لمأثوراتها ومؤرخاً لفجيعتها بمنظورٍ أدبي وفني تجاوز الأطر التقليديَّة.
اشتغال جمالي
إلا أنَّ منجز الفوتوغرافيا ظل ضعيف الأثر في تعامله مع هذه المأساة لفترة طويلة وبقي حذراً، يكتفي بحدود التوثيق والأرشفة المكانيَّة وترسيم بعض الموحيات والمدلولات السطحيَّة عنها، والتي كانت مقيدات رقابة السلطة لا تسمح بتجاوزه لمنع وتحجيم قدرة الصورة على إحداث أي شكلٍ من أشكال الاتصال بحركة ومضمون الشعائر الحسينيَّة وسريان تأثيرها بما ينعش جذوتها في نفوس الجمهور المتعطش لتقفي أثر منهجها الرافض للظلم والاستبداد، والحيلولة دون التأثر بما تركته من مفاهيم إصلاحيَّة وتغييريَّة لمواجهة واقعٍ فاسد تنتهجه السلطات الغاشمة في أي زمان ومكان.
وفي ظل أجواء حرية التعبير، ومع تطور موقع وأثر الصورة وتسيدها على خطاب وسائل الاتصال أتيحت للمصور فرصة نادرة لترك عدسته تتحرك بحرية وبمساحة أوسع لتحفر بتفاصيل وأخاديد الواقعة، معبرة بجماليات فن التصوير عن أوجه مأساتها وقراءة مشاعر وانطباعات ما ينعكس على وجوه المعزين بلغة فوتوغرافيَّة تجاوزت جانب التوثيق نحو تأسيس قراءات فنيَّة وجمالية بدأت تقترب تدريجياً من جماليات لغة وأدوات السرديات، بل تنافسها في بعض الأحيان وهي تختزل حجم المسموع والمدون والمنقول والمتخيل والذي يصل حد الغلو والمبالغة والتهويل، استطاعت الفوتوغرافيا تجاوزه عبر اشتغال جمالي تمكن أنْ يستحضر حدثاً بوسع مأساة الفجيعة بلقطة واحدة نجح العديد من مصوري الفوتوغراف العراقي تحقيقه في منجزهم.
واخترنا لقراءة هذا الاشتغال الفوتوغرافي النوعي أعمالاً للمصور الفوتوغرافي العراقي المحترف «رحيم السيلاوي» التي حققها في مواسم عاشوراء وحظيت بترحيب الأوساط الفنيَّة؛ لما امتازت به من تقنية واشتغال فني استدعت قراءة نقديَّة لمفرداتها الجماليَّة.
المصور رحيم السيلاوي يعيش في جغرافية وبيئة مكان الواقعة، وخبر تفاصيله بعناية تامة ويتفاعل سنوياً مع وقائع أحداثها بحرصٍ شديد، حمل كاميرته مسؤوليَّة التجوال في تفاصيل مشاهدها لينجز أعمالاً ناجحة في حضورها الفني حققت جوائز مهمة في مشاركاتها المحليَّة والدوليَّة.
إلا أنَّ أعماله الأخيرة جاءت مختلفة عما سبقها، وعن جميع الاشتغالات التي ينجزها العديد من المصورين سنوياً. السيلاوي أراد أنْ يعيد ترتيب اشتغاله وتفاعله مع مضمون الحدث والتعبير عنه بصرياً بأسلوب وتقنية مغايرتين لإنتاج مضمون أكثر قوة وتأثيراً في المتلقي، وأسس له بإثارة أسئلة استفهاميَّة عن مهمة المصور.
 
تحقيق الرؤية
فهل أنَّ مسؤوليته كصانع للجمال تقتصر على ترك الكاميرا توثق تلقائياً ما تسجله العدسة من تفاصيل أحداث دراميَّة واسعة ومتعددة الحالات والأمكنة؟ أم يلجأ الى قاعدة الاختزال والتعويض؟ خاصة والحدث يضج بالمعلنات الصوتيَّة والممارسات الطقوسيَّة، وتنعكس مآثرها في أحاسيس ومشاعر مفجعة تتوزع بين مساحات يصعب حصر التفاعل مع وقائعها بزاوية محددة تكون قادرة على اختزال المعاني والدلالات ولا تفرط بما يختفي منها، ويمكن التعويض عنه لتحقيق الرؤية في لقطة بصريَّة واحدة؟
عبر هذه الأسئلة أعدَّ السيلاوي إجابته بتركيب اشتغاله الجديد محولاً كاميرته الى قلمٍ يكتب فيه بالضوء حكاية لا يكرر فيها ما سرد وما حكى وما يمكن أنْ يقال، ليتجاوز الوقوع بالتكرار والمألوف، وبالتالي ينجح في إنتاج عمل مؤثر يقاوم تحدي المستفرغ من قراءات بصريَّة سابقة لم تُبق جانباً إلا وتوقفت عنده وتفاعلت عدسات المصورين المنتشرة في مختلف الزوايا مع حدثه بتفاصيل دقيقة.
السيلاوي ركز في هذا العمل على لغة الاختزال والإيجاز لتعميق فكرته، مشتغلاً على ثيمة المعادل اللوني لموروث الواقعة الذي تشكلت أحدوثتها في الوعي الجمعي، فلطالما تركز اللون الأحمر في مساحة الذاكرة الجمعيَّة كدالة موروثة للتعبير عن حجم الدماء التي سالت في هذه الفجيعة ومعبرة عن أشخاصها القتلة الدمويين، يقابله لونٌ أخضر مثل روح وعطاء آل بيت الرسول ومحبيهم والمنتسبين إليهم الذين يتشحون بلبسه، ممزوجاً بسواد يطغى ويتلبس الحضور المكاني ليبقى أزلياً حتى قيام الساعة تمثل دلالته لوعة وحجم فجيعة المأساة التي يعاتب فيه محبو وعشاق ضحايا المأساة أنفسهم وهم يرتدونه ويرفعون أعلامهم السوداء حزناً وحضوراً في مشاهدها.
هذه الثلاثيَّة اللونيَّة ارتكز عليها اشتغال السيلاوي كمعالجة موضوعية لعمله الجمالي النموذج واختار له بيئة لطالما ثبتت أسسها في جماليات المكان التي ارتبطت بمشهد ضريح إمامٍ خالدٍ مثل عنوان التضحية والإباء والصبر والإرادة والكبرياء ليتربع على مجد الحرية والنبل والإيثار والشموخ الإنساني. فركزالسيلاوي منظور رؤيته بالقرب من ضريحه ليختزل الهدف في تسكين ارتباط المكان في الذاكرة الجمعيَّة للمتلقي، وليحكم قبضته على إطار صورته شكلاً ومضموناً.
 
صدمة جماليَّة
السيلاوي لم يترك هذه الثلاثية بمكانها تفضح نفسها في وضوح تبؤر عدسته كاشفاً عن مفرداتها التقليديَّة، بل عمد على طمس واقعيتها لينتج واقعاً افتراضياً جديداً أنجز فيه بيئة لمضمون لم يتقبل قراءة ظاهريَّة، بل أراد أنْ يحقق فيه صدمة جمالية عمد فيها على كسر قاعدة الوضوح لمفردات عمله ولجأ الى قاعدة تشتيت الحركة وتغريبها لينتج صرخة تعبيريَّة لا تستكين في قراءة سطحيَّة عابرة بل ترك نهاياتها تنفتح عبر بوح تشكيلي على أكثر من احتماليَّة لمعانيها.
فكل الأشياء في عمله خرجت عن حدود الكشف الواضح لمفرداته ليعلن أنَّ الزمن والتاريخ لن يستطيعا أنْ يسكنا الفجيعة وحجم الألم فيها في حدود ومعانٍ محددة ومعلومة، فهي معينٌ متحركٌ لا ينضب ولا يسستقر عند حدود وسيبقى قابلاً على أنْ يغترف منه من دون أنْ ينفد.
ولتنفيذ هذا المعادل البصري لدلالات وموحيات الكتل اللونيَّة نجح السيلاوي أنْ يختار مكاناً وتوقيتاً فاعلين لزاوية التقاطه من مستوى أعلى (up- shot) ليظهر فيها طغيان لون الدم الأحمر ككتلة مهيمنة في ميزانسن كادره تعبيراً عن حجم وثقل من تحضر لهذه المأساة عدة وعديداً وتجيش لإسالة دماء غزيرة نزفت من أجساد أطهر مخلوقات الله على الأرض. يقابله توازن كل هذا الدم أمام كتلة خضراء مع قلة حجمها لتعبر عن قلة الأصحاب والناصر لآل البيت الذين نادوا «هل من ناصر ينصرنا» لتنهي الثلاثيَّة اللونية بتلبية جسدية بسواد أعظم أحاط بالمكان وتسيده معلناً أنَّ الموالات كبيرة وباقية ولن تتوقف تلبية لنداء النصرة حتى قيام الساعة.
معادلة جمالية لتركيبة لونيَّة اعتمدها السيلاوي في أعماله الأخيرة كتب فيها قصيدة مفجعة ورسم بالنور لوحة تذكرنا بأعمال المصور الإيطالي (اكيرمان) وهو يتعمد ترك مفردات صوره خارج التبؤر، مركزاً على شيء واحدٍ فيه دلالة على أنَّ كل ما من حولك سيتحرك ويتغير وعليك التركيز على هدفك المطلوب استحضاره والإشارة إليه.
 
قاعدة النقطة الذهبيَّة
أعمال أخرى ترك السيلاوي فيها بصمة جمالية ارتكز اشتغاله فيها على قاعدة النقطة الذهبية ليرشدنا بقوة الى معانٍ قيميَّة عالية في مأثورات واقعة الطف تجسدت في عدة حالات اشتغل في بعضها على فكرة المعادل اللوني وتركيز سرديته في تباينات ضوئيَّة أعطت دلالات واضحة لما أراد الإفصاح عنه. ولكي يتجاوز التصنع في قراءة الانطباعات الصادقة والمؤثرة التجأ الى قراءة وجوه الأطفال ليعيد تركيب ردود أفعالهم وأنجز أربعة أعمال متميزة ركز في أحدها على طفلٍ رضيع أبقاه لوحده في دائرة التركيز مشتتاً ما حوله تاركاً لوجه رجل دين أعلنت تعابيره تساؤلات عن ظلامة ما اقترفه طفل رضيع ليكون أحد ضحايا هذه المأساة.
أعمالٌ أخرى اشتغل فيها السيلاوي على قراءة تعابير الأطفال وعكس لنا تساؤلاتها المعبرة بصدقٍ وعفويَّة، مختزلاً فيها عشرات صفحات السرد المقروء وأوقفنا فيها عند انطباعات ظهرت على وجوه أفصحت عن قراءة مستقبليَّة لجيل سيبقى مستنكراً المأساة ومقتفياً أثر شعاع نور نازلٍ من السماء يحمل نداء استغاثة لنصرة سيستمر هذا الجيل في تلبيتها ويبحث عن أفقها في كل زمان ومكان.
رغم أنَّ منجزه يفصح عن اشتغالات فوتوغرافيَّة متعددة الاتجاهات، إلا أن السيلاوي تمكن في اشتغالاته الأخيرة من توظيف تقنية وأسلوب الاختزال والتركيز لتجسيد معنى ما يريد التعبير عنه بأقل المفردات. وهي أعمال يشاركه في نسق مفردات جمالياتها منجز، بدا واضحاً في نتاج عدد من الفوتوغرافيين العراقيين الشباب لتؤشر لانعطافة واضحة في مسار الفوتوغرافيا العراقيَّة ستحتفظ في أرشيفها بأعمال رحيم السيلاوي كعلامة متفردة فيها.ـ