سيد الحزن!

الصفحة الاخيرة 2020/10/09
...

حسن العاني 
ها أنت أيها العجوز تستحضر صباحاً ساخناً من صباحات 1962، عجباً كيف يتسنى لك ذلك ومواجع العجاف من السنين تؤرق ليلك، فلا تدري على أي عكاز تتكئ، ما بقي موطئ وجع إلا وعاشر الروح، ثم تستدعي في زحمة الذي كان وما هو كائن، أول صباح معطر برائحة حارة حيث تزف فيه الجريدة بشارة مولدك من برج الصحافة، وليتها كانت من برج الأثرياء أو الأغبياء لتكون على حظ عظيم، غير أنَّ فرحة الميلاد يومها عل درب الكلمة، ما كانت تعادلها إلا ومضة القلب تخفق على ابتسامة الحبيبة.. طفلاً أيها العجوز كنت تتصرف والصحيفة في يدك المرتعشة انتشاءً، تعلن عن مخاضك الأول، ومزهواً بابتسامتها قلت لها [انظري يا صفية الروح انه اسمي ومقالتي لم يتصرف بها أحد] فيشرق وجهها، وكدت لولا الحياء ومخافة الوشاة... تضمها الى صدرك، وكادت لولا الحياء ومخافة العشيرة تهديك شفتيها... أفبعد الذي مضى ومضى أيها العجوز وأنت تواصل الرحلة، تكتب وتكتب وكأنك تسابق موتك أو تستبقه، وموتك حين تنطفئ العين وترتجف الأصابع ويتوقف القلم عن مطاردة البطون المنتفخة بلقمة الفقراء...
عجباً يا سيد الحزن كيف تتسنى لك الإطلالة عبر مواجع العجاف على رحلة المتاعب (ما كسرتك الريح ولم تنكسر)، ولم تجرؤ رغبة زعطوط أو نزوة طارئ، كما لم تجرؤ يدٌ أو تتطاول على مس جراحك أو العبث بأوجاعك، حتى إذا تغيّرت الأرض غير الأرض وارتفعت عيدان العوسج الى أنْ غطت حبات القمح... طلع البدو والأعراب، وتفتقت الجحور على الغرباء وصبيان الحرف ومنافقي قريش، صرت دمية.. فلا وقار لديهم يوقر شيبتك، ولا تاريخ لديهم يجل تواريخ الآخرين، ولا مقدس عندهم غير الدينار برغم الذي يدعون ويقولون ويزعمون..
أرادوا بالأمس ويريدون بعد الأمس أنْ تكون مهرجاً في بلاط سلطانهم وضارب دف في جوقة مغنيهم، وتمنوا البارحة ويتمنون بعد البارحة، لو كنت بعضاً منهم لا أنْ يكونوا بعضاً منك.. لا مال ولا خيل ولا ضرع مسؤولاً، ولولا كثرة الباكين أيها العجوز ولولا ولولا... وتسأل نفسك في خيبة نهار أو ظلمة ليل: لو تعلمت طوال خمسة عقود من رحلتك التي لا تود الانتهاء، مفردة واحدة كل يوم من مفردات المهنة، وما يجوز ولا يجوز، وما يصح ولا يصح، وما هي حدود الحلال وما هي حدود الحرام لأصبحت مرجعاً لمن يطلب الاستشارة أو الفتوى الإعلاميَّة و.. وما زلت تقاوم قدر اللهاث والكبوات والممنوعات برغم العوسج وتقوس الظهر.. وقدرك ألا تحني رأساً ولا قامة ولا موقفاً ولا هامة، مع أنك تدرك بأنَّ الزمن غير زمنك حيث أكلته الطحالب وتقاسمه الأعراب والأغراب والذين هم في كل عصر وأوان من ماسحي الأحذية والأكتاف.. فهل بربك ستواصل الرحلة منفياً في زمن الغير؟!