أجدُ في المسلسلات التاريخيَّة متعة، لكن ما يُفسد هذه المتعة، هو تشويه الحقائق الذي تمارسه هذه المسلسلات حدّ قلبها. مُنذ سنوات خلت تابعتُ النسخة المصريَّة لمسلسل هارون الرشيد بطولة نور الشريف وإخراج أحمد توفيق، وقد هالني حجم التشويه لثوابتٍ تاريخيَّة لا يطالها الشك. فقد تولى الرشيد المُلكَ سنة 170ه، بعد أزمة مع سلفه وأخيه الهادي كادت أنْ تطيح به، فقد أراد الهادي أنْ يقصي أخاه هارون، ويضع ولده جعفر بديلاً عنه، لولا تدخل خالد البرمكي وتدبيره.
وصل الرشيد إلى الحكم وعمره (21) سنة فقط، فحفظ ليحيى البرمكي صنيعه، فولّاه كلّ شيء من أمر الملك والسلطان وإدارة الحكم حتى خاتم الخلافة. لقد دام حكم هارون (23) سنة، أمضى فيها البرامكة (18) سنة يقودون العباد والبلاد، حتى وقعت النكبة سنة 187هـ، وعندها فقط أمسك هارون بختم الخلافة واستعمله إلى نهاية حكمه، الذي انتهى بموته بخراسان سنة 193ه، وهو بسنّ (44) فقط!
في النسخة المصرية من هارون الرشيد رأيتُ العباسة أخت الرشيد تصفعُ جعفراً البرمكي، فقط لأنه أفضى برغبته الزواج منها، وأنه سيتقدّم بطلب يدها من الرشيد، وهذا ليس صحيح تاريخياً. لكن النسخة السوريَّة الأخيرة الباهتة من مسلسل هارون الرشيد، من إخراج عبد الباري أبو الخير التي انتهى بثها تواً، من على شاشة إحدى الفضائيات العربيَّة، أظهرت جعفراً يُطارد العباسة، وهو مغرم بها عاشق لها، حتى إذا ما تجرأ بإبداء رغبته الزواج منها، صفعته على وجهه (تقليداً للنسخة المصريَّة) ثمّ بصقت بوجهه!
دونكم في هذا الموقف وحده، الحوليات الكبرى لتاريخ المسلمين كما هي ثابتة في الموسوعات الثلاث التأسيسيَّة؛ اليعقوبي والطبري والمسعودي، فكلها تؤكد أنَّ هارون ضغط على جعفر البرمكي في الزواج من أخته العباسة، وجعفر يتهرّب خوفاً من عواقب هذا الزواج، وفي النهاية أذعن جعفر لرغبة الرشيد وارتبط بالعباسة، لكن بشرط ألا يجمعهما الفراش بحسب رغبة هارون؛ الذي لم يكن يصبر على جعفر دون العباسة، أو العباسة دون جعفر!
لم يَرُق هذا الشرط للعباسة فطاردت جعفراً، حتى أوقعته بحيلةٍ، مستعينة بأمه أم جعفر، حينما أغرته أمّه بالاتفاق مع العباسة التي توسلت إليها بوصال جعفر، فكان ما كان بينهما في ليلة غلب فيها الشراب على جعفر، وعندما نالت العباسة مرادها منه وقضت حاجتها التفتت إليه، وهي لا تزال بالفراش: كيف رأيتَ حيل بنات الملوك؟ فوثب فزعاً قد زال عنه سكره ورجع إليه عقله، وأقبل على أمّه التي دبّرت الأمر تجاوباً مع إلحاح العباسة، وقال: لقد بعتني بالثمن الرخيص!
أجل المعالجة الدرامية ضرورة للنجاح، لكنْ بشرط ألا تقلب الحقائق وتشوّه المشوّه أصلاً!