السلبيَّة وتجنّب الاصطدام بالآخرين

استراحة 2020/10/12
...

نهى الصراف
لا يستغرق الأمر كثيراً من الوقت هذه الأيام للدخول في مشادة كلاميَّة مع أحدهم، بسبب اختلاف وجهات النظر في أجواء نفسيَّة ملبّدة بالضغوطات. يرمي شخصٌ ما بطعمٍ ملغومٍ بكلمات مستفزة فيثير عاصفة من الغضب حوله؛ والغضب أعمى بطبيعته ذلك الذي يستدعي ردود أفعال لفظيَّة وربما حركيَّة لا تقل وقاحة عن كلمات الشخص الأول، أما إذا فقد أحد الطرفين أو كلاهما السيطرة على مشاعره هذه فإنَّ المشادة قد تتحول من دون شك إلى تبادل شتائم أو عراك بالأيدي في مشهدٍ صار يتكرر كثيراً.
على الأغلب، فإنَّ بعض الأشخاص يجيدون القيام بهذا الدور على أكمل وجه، فهم يمتلكون قدرة عجيبة على استفزاز الآخرين وإثارة غضبهم من دون سببٍ واضح، يضعون الطعم أمام أنف الشخص المقابل ويتأهبون في انتظار ردود أفعاله وبعد أنْ يفقد السيطرة على انفعالاته، يظنون أنَّ مهمتهم انتهت عند هذا الحد ثم يبتسمون بنشوة الانتصار يتملكهم الإحساس بالرضا كلما تفاقمت أمامهم مظاهر الغضب
 والانزعاج.
هذا هو الأمر في الواقع، الواقع الذي لا يمكن تجنبه خاصة لمن يحيط نفسه بدائرة اجتماعيَّة واسعة تجعل من محاولة تجنب الدخول في نقاشات من هذا النوع أمراً مستحيلاً، مع ذلك، هناك ستراتيجيات عدة لمعالجة الموقف كما تؤكد لوري كاتز؛ باحثة وطبيبة نفسية أميركيَّة، مشيرة إلى إمكانية التحايل على الآخر و(عدم التقاط الطعم) أو اللجوء إلى خيار عدم المشاركة وإفساح المجال للآخرين لتكون لهم الكلمة الأخيرة، حتى لو كنا متأكدين بأننا على حق: "كونك عقلانياً قد لا يجنبك الاصطدام مع الآخرين بل انه في أفضل الأحوال سيجعلك مستعداً مراراً وتكراراً للانغماس في الفوضى، إن تحاول إجراء حوار عقلاني ومنطقي مع شخص غير مستعد لأنْ يكون عقلانياً هو ضرب من جنون، من هو الأحمق بينكما؟ هذا غير مهم طبعاً، السؤال الأهم هو؛ هل يستحق الأمر أنْ تفقد سلامك النفسي؟
 بالطبع لا".
تقول لوري: إذا كنت تعرف فرداً في أسرتك الكبيرة أو زميلاً في العمل ربما يحب إثارة هذا النوع من الأحاديث العقيمة، فإنَّ التخلص من المشكلة يبدو سهلاً؛ فأنت تعرف هذا الشخص جيداً وتعلم بنواياه وقصده في محاولة إثارة الخلافات وتعكير أمزجة الآخرين، وكل ما عليك فعله أنْ تكتفي بمراقبته وتتجنب المشاركة في الحديث المتشنج، سيسهل عليك حينها أنْ تلاحظ الصعوبة التي يواجهها في محاولة لفت انتباهك أو من يشارككم الحديث، نعلم أنَّ هذا النوع من الناس سيقتله التجاهل، فمن دون التفاعل معه بالأخذ والرد لن يكون لديه جمهور
 بالتأكيد.مع ذلك، ليس من المجدي محاولة إقناع شخص ما بتغيير أفكاره ومعتقداته خاصة إذا كان مرتبطاً عاطفياً بهذه المعتقدات سواء أكانت شخصية أو ما يتعلق منها بالآراء السياسيَّة، ومن المفيد إذا لزم الأمر اختيار المكان والزمان المناسبين لطرح وجهة نظرك أو للتعليق على حدثٍ ما، من دون الحاجة إلى استفزاز الآخرين أو محاولة كسب عداوتهم أو بغضهم وتجاهلهم على أقل تقدير، فالسلبية في هذه الأحوال خيارٌ مناسبٌ لا يكلف صاحبه سوى الصمت، ولو إلى حين. 
وإذا لم يكن مفر من أنْ يبتلى أحدنا بوجود فرد من أسرته المقربة مدمنٌ لهذا النوع من السلوك المشاكس كهواية لتمضية أوقات فراغه، فهذا أمرٌ يرتبط بالصبر والحيلة لتجنب الشجارات غير الضروريَّة، من جهة أخرى. 
فإنَّ الخيارات تبقى مفتوحة أمامنا لاختيار الأصدقاء في الأقل وهذا أمرٌ غير ملزمٍ باتجاهات محددة، إذ سيكون لنا مطلق الحرية في أنْ نحيط أنفسنا بدائرة اجتماعيَّة آمنة وأشخاص يشبهوننا في اتجاهات ومستويات التفكير، لكنَّ هذا لا يمنع من أنْ نراعي التنويع في صداقاتنا بأنْ تكون لدينا فرصة للانخراط في محادثات مثمرة لاستبيان وجهات نظر مختلفة، شرط أنْ يلتزم الأشخاص في الطرف الثاني من الحوار بالعقلانية والانفتاح على الآخر، ألا يكون هناك تعصبٌ أعمى في اتجاه ديني أو سياسي أو لمجرد الإيمان بفكرة التعصب كخطٍ عام في العلاقات، وكما هو معروف، لا جدوى من الجدال مع شخص متعصب فالأمر كما يراه الشاعر والطبيب الأميركي أوليفر وندل هولمز معقد للغاية؛ لأنَّ عقل المتعصب يشبه بؤبؤ العين، كلما زاد الضوء المسلط عليه زاد
 انكماشه!