عبد الله صخي:المكان فضاء قَدَري يصادفنا في لحظة من عمر الزمن

ثقافة 2020/10/24
...

  حاوره من بغداد: حسن جوان
 
صفحات روايته تشبه دمعاً مكتوماً يحتبس في وهج العيون، يترقرق في مآقي الجنوبيات اللائي احتملن بصبر جلد الوجع المحفور على صفحات وجوههن، وزمت شفاههن على كبرياء تركت خطوط لوعتها على جباههن وخدودهن الملوّحة بشموس الهجرة ذات الأمل والضنى والتوق. حدوس وهواجس في وسط معادٍ لسحنتك ولهجتك وهوانك على دنيا أضاعت قصيدتك ونشيدك الحزين. لذا يقف راوي هذا النشيد/الروايات، وهو العارف بثنايا كل مكان آنذاك، كما يتذكر انه كان من اصغى لكل خلجة هناك في الأماكن الزائلة، لكن المقيمة في العيون اللاهجة والحب المظلم بالمواويل.
 القاص والروائي عبد الله صخي، اكثر الروائيين العراقيين إمساكاً بلحظات التحول والهجرة العراقية وأخبر من دوّن بطريقة فنية فريدة أسرار مواسم التحولات المكانية وما ترتب عليها من تغيرات واحتكاكات شائكة في الروح والمجتمع. الهجرات الجنوبية الى اقاصي الامل وهجرات موروثة أخرى نحو فراديس لم تكن يوما سوى نهاية اغنية ضلّت أنين الناي في بلاد لا تعرف سوى الريح والضباب والمطر الضلّيل الذي لا يزيد المشهد إلا ضبابية وتمويها. كيف للروح أن تجمع رحيقها من يباب ذاكرة غابت عنها مثاباتها! هي غربة بين حواس مشتتة واستعادة لما بقي من اسم المكان. يحظى «صخي» بعاطفة خاصة من لدن قرّائه وحفاوة استثنائية، ليس لأنه لامس عروق أرض أسلاف الكثير منهم واختلط برائحة بيوتهم وخناقاتهم الزاعقة فحسب، وإنما لبراعته أيضاً وصدقه في تمثيل تلك اللحظات والهواجس العميقة التي لم تزل بقايا منها تجوس في الروح.
 
* لو فكرنا أن ننظم عقد ثلاثيتك لوجدنا خيطاً يمرّ في منطقة اشتغال مسكونة بالروح المثقلة بين متاهتين للمهاجر، مفترق يخفق عنده القلب وتتلعثم فيه الحواس، هو نقطة تحوّل بين وطن تحمله وآخر يحملك بعيداً. هل في توثيق منطقة التحولات الروحية والمكانية لديك مكمن خاص لتتناول تلك التجربة بخصوصية فريدة في ثلاثيتك؟
- توصلتُ إلى المكان بوصفه قَدَراً نصادفه فنخلق بعضنا في سياقه المشروط بالزمن وبالسعي لإيجاد عناصر حياة جديدة قابلة للنمو والتطور. تاريخ شخصيات الثلاثية تاريخ قديم مرتبط بالقدر وبالتحولات التي ساقها لينتج عناصر بشرية محاصرة بالزراعة والقيود. أناس لا أمل لهم إلا بالفلاحة ولا حل لمعاناتها إلا بكسر القيود. حدث ذلك في أعقاب هزيمة الدولة العثمانية في دورة الحرب العالمية الأولى ليرى العراقيون بلدهم سهولاً كئيبة، بساتين متناثرة، صحارى مترامية، وأرضاً حزينة. لم يفعل العثمانيون شيئا جدّياً لصالح العراق أثناء حكمهم له، الذي استمر أكثر من أربعة قرون، سوى استحصال الضرائب وتجنيد الشباب في حروب الإمبراطورية الثيوقراطية الاستبدادية. خرج العراق من تلك التجربة منهكاً يعاني من التخلف والفقر وآثار الضرائب التي زادها الاستعمار البريطاني بعد أن غزا البلاد بوعود مزيفة. وسرعان ما أدرك العراقيون الاستغلال الجديد المحدق بهم والذي بدأت طلائعه بالظهور في فرض ضرائب جديدة أثقلت حياة الفلاحين وملّاك الأرض فأشعلوا «ثورة العشرين»، للخلاص من النظام شبه الاقطاعي بقسوته وبطشه واستغلاله ومن المستعمر الذي أخذ يدير البلاد لمصلحته ومصلحة الموالين له. بعد توقف ازيز الرصاص وأصوات الأهازيج وعودة الحقول إلى سكينتها وجد الفلاحون أنفسهم مطلوبين للسلطات وبلا قدرة على مواصلة العيش بكرامة فقرروا الهجرة إلى بغداد حيث بدت المدينة هي الخلاص. كانت هجرة جماعية تمت بدون اتفاق. تلتها سلسلة من الهجرات التي لم تتوقف حتى الستينيات شملت أعداداً من الفلاحين وسكان الأهوار، وصلوا إلى بغداد يحدوهم أمل كبير بحياة أفضل. أقاموا خلف سدة ناظم باشا (الطريق السريع اليوم) بين محطة تعبئة بنزين الكيلاني وملعب الشعب. ثم انبثق تجمع سكاني آخر في الكرخ يدعى الشاكرية (في موقع المنطقة الخضراء اليوم) وثالث في بزايز الصليخ. القدَر اختار لهم تلك الأماكن فهو أكبر من المعلومة القادمة من المدينة، وأبرع من الخطط المستقبلية المحكومة بالصدفة. بعد حين ادركوا أنهم يعامَلون كما لو أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، فعاشوا على مشارف المدينة، واشتغلوا بمهن مختلفة بالكاد تؤمّن قوت يومهم. من هنا بدأت رحلة الجراح الروحية. بعد الانتقال إلى مدينة الثورة (الصدر حاليا) بدأت رحلة جراح أخرى في أرواح الجيل الجديد من أبناء المهاجرين الذين استشعروا صدمة الفوارق الاجتماعية بينهم وبين أبناء المدينة، فهم وإن سكنوا المدينة إلا أنهم لم يتمكنوا من التمازج معها فظلوا أبناء فلاحين، ينطبق عليهم تعبير «قرويو المدن» الذي أطلقه الكاتب المرموق محمد خضير. هنا تلتقي الجراح الروحية كما تلتقي الهجرات أو الأقدار، وقد حاولت أن أتتبع آثار ذلك في يومياتهم وعذاباتهم وبراعتهم في مواجهة الألم.
 
* ما بين مجموعتك القصصية الأولى وبين أولى رواياتك قرابة عقدين ونصف العقد، هل احتاجت ذاكرتك كل تلك السنوات من الترسّب الهادئ والسكينة لتكتب ما رشح من ذاكرة وعاطفة دونت فيها حواسك ملحمة كتابة تاريخ جديد للمدينة؟
- لم تكن ذاكرتي بحاجة لكل تلك السنوات. كنت بحاجة إلى فسحة هادئة أعيد فيها ترتيب ذاكرتي التي حملت في جنباتها وطنا بأطيافه وطقوسه وتطلعاته وطفولته وصباه، وقواه السياسية وصراعاتها المريرة التي انتصرت فيها الخناجر على العقل. فكرت بكتابة «خلف السدة» عام 1984، أي بعد خمس سنوات من مغادرتي العراق، وأربع سنوات على صدور مجموعتي القصصية الوحيدة. لكن المنفى له شروطه وله أثمانه الباهظة التي يدفعها صاغراً كل من فُرِضت عليه هجرةٌ قسرية. تلك الأثمان المؤلمة عانى منها المهندس والطبيب والمعلم والمحامي والعامل وكل من فرح في لحظة اجتياز الحدود ثم وجد نفسه في مواجهة واقع لم يخطر له على بال، في مواجهة صدمات وخسارات وخيبات متتالية. أنا واحد من هؤلاء الذين كلما ابتعد الوطن عنهم ازدادوا تعلقاً به وحنينا إليه... عشاق... نعم عشاق معذبون يجوبون شوارع العالم حاملين في قلوبهم الرهيفة الهشة باقات زهور لبلاد مجهولة كانت لهم يوما ما. ظللت سنوات أبحث عن مكان يؤويني، لا يلفظني بسبب انتهاء إقامة، أو نفاد صلاحية جواز سفر، أو عقد اتفاقية سياسية مع النظام الحاكم الذي طاردني كمجرم أو لص، وأجبرني على الهرب تحت جنح الظلام. وحدث أن وجدت نفسي بلا حماس لأن أمسك القلم وأخط حرفاً بعد أن جرفني تيار البحث عن سكن أو عمل فتوقفت عن الكتابة. التوقف عن الكتابة بحد ذاته ليس هو المشكلة. المشكلة تكمن في استمراره حتى العطل التام. هناك الكثير من الكتاب توقفوا لسنوات طويلة، خوزيه ساراماغو توقف أكثر من عشرين أو ربما ثلاثين عاماً، يحيى حقي توقف أحد عشر عاما، نجيب محفوظ بعد روايته «بداية ونهاية» توقف ستة أعوام. بعضهم عاد إلى التأليف بنشاط وحماس رائعين، والبعض الآخر انصرف لشؤون حياته ويأسه وتأملاته. خلال السنوات التي ذكرتها في سؤالك كنت دائم التفكير بالكتابة حتى أني وضعت الخطوط العريضة والوقائع العامة لرواية «خلف السدة». وفي أيام الاضطراب والخوف من اللجوء إلى بريطانيا عام 1990 نسيت المخطوطة لدى صديق سوري. يومها كنت أقيم في دمشق. وعندما توفر لي نوع من الاستقرار في لندن رحت أفكر بالكتابة من جديد لكني لم أفلح إلا بكتابة قصة قصيرة واحدة. عملت مصححاً في جريدة «القدس العربي»، وكان الناقد السينمائي المصري أمير العمري يعمل محرراً في القسم الثقافي. أخبرني ذات يوم أنه مدعو إلى مهرجان دمشق السينمائي وسألني إن كنت أريد شيئا من هناك. قلت له على الفور مخطوطة رواية، وأعطيته رقم تلفون صاحبي السوري. ولم أصدق عندما عاد وسلّمني إيّاها. لن أنسى تلك الخدمة البديعة التي أعادت لي حياتي الأخرى الغائبة. قرأتها مرات، حتى أصبحت الشخصيات تعيش معي. ومن خلالها شيّدت بلدة لم يعد لها وجود إذ اندثرت تحت هدير البلدوزرات ولم يبق منها سوى ضريح سيد حمد الله وذاكرة أبنائها، ثم شيدت وطناً خيالياً استغرق بناؤه سنوات طويلة أفضى إلى كتابة «خلف السدة» في سنة واحدة. 
 
* الكتابة بعد زوال الأمكنة، هل هي محاولة للإمساك بالتاريخ في لحظته العاطفية الحميمة، أم هي انحياز لتوثيق لحظات روائية كانت يوماً حياة مختلطة بالجلد والاديم؟
- نعم هي إمساك بالتاريخ لإعادة بنائه من وجهة نظر الراوي وليس المؤرخ، أقصد أن المساحة التي يتحرك فيها الخيال ستكون واسعة تسهِّل انبثاق المباني والشوارع والأزقة والأسواق وأولئك المجهولين الذين غادروا المكان لحظة زواله. إن إعادة بناء موقع مندثر هي إعادة بناء وطن، إحياء لمرحلة، لتاريخ زاخر بالمصاعب والأساطير منذ دخلت القوات البريطانية العراق عام 1914، وقد أكملت مهمة الاستعمار العثماني في استغلال بلادنا وإفقارها. وفي سياق السنوات اللاحقة 
جرى التأكيد على المدينة المركز وأهملت الأطراف حتى بدا واضحاً انتصار المدينة وهزيمة القرية. من هنا بدأت طلائع المهاجرين تتجه صوب منائر بغداد وقبابها وجسورها.
 
* غالباً ما تكون ذاكرة المهاجر-داخل وطنه أو خارجه- ذاكرة صلدة وانتقائية، وتقاوم فكرة نمو وتبدل الزمان والمكان الذي غادره، مثل فكرة ترك طفل لم تره منذ عشرين عاماً، لذا تبقى صورة الطفل التي تشبه طفولة المكان أو طفولة ذاكرتنا عنه. لذا يحمي المهاجر روحه من الانكسار عبر حمل صورة وطنه الأول وعاداته إلى المكان الجديد. كيف عالجت في ظل تجربتك الشخصية كروائي مثل هذه الذاكرة؟
- بعد مضي السنوات الأولى للهجرة، وذوبان الانبهار بالخلاص الشخصي، وانهيار الآمال في حياة جديدة معتدلة، والانغمار الكلي في البحث عن سكن أو عمل حدث أن اتسعت الذاكرة بطريقة خلاقة ومبهرة. رحت أتذكر كل شيء: الأسواق، الشخصيات، الطعام، المدرسة، مدير المدرسة ومعاونه ومعلميها وفرّاشها، برنامج التغذية المجانية وحبوب دهن السمك، والطقوس اليومية والسنوية. وكلما تراكمت سنوات البعد عن العراق ازدادت حدة الذاكرة يشحنها بقوة الشعورُ باليأس من إمكانية العودة. وكما أخبرتك قبل قليل تلك الأشياء أخذت تؤازر بعضها لتنهض مثل بناء منيف، فالذي اندثر واقعيا برز في الخيال مرسوما بنشاط لاهب وقد ظل كما هو ما عدا الإجراءات الفنية التي يفرضها السرد. لن يحتاج الكاتب، كي يعيد بناء ما اندثر من الشخصيات والحكايات، إلى الصورة الواقعية تماما كما تنعكس في مرآة، بل يحتاج إلى إشارات يلتقطها ويبني عليها رؤيته. حين عدت إلى العراق لأول مرة عام 2009 بعد فراق ثلاثين عاما ذهبت إلى بيتنا القديم (لم يعد بيتنا) في شارع الداخل بمدينة الثورة (الصدر) شاهدت مبنى جامع موسى الكاظم أصغر مما كان في أواخر الستينيات، والشارع الذي يقع فيه بيتنا أضيق مما كان. هل كنت بحاجة إلى الأبعاد الواقعية للأشياء كي أكتب «دروب الفقدان»، الجزء الثاني من «ثلاثية الهجرات». لا. كنت بحاجة إلى الإشارات الجاذبة المتولدة عن التقاء الواقع بالخيال، الحلم باليقظة، الموت بالولادة، السفر بالاستقرار، الحب بالهجران. ثنائيات لا تنتهي تحضّ على إعادة بناء المكان في تاريخيته المبتكرة.
 
* هل تجد متعة وآفاقاً ثريّة في تجربتك الترجمية للقصص القصيرة والرواية، وإلى أي مدى تجدها رافداً لمشروعك الروائي الخاص؟
- في البداية، أواسط الثمانينيات نعم كنت أجد متعة كبيرة، هي متعة اكتشاف قارة، خاصة عندما اقتنيت نسخة من كتاب خورخي بورخيس بالإنكليزية «ذهب النمور» في مكتبة بقبرص. يومها ترجمت بلهفة إحدى قصصه هي «المرآة والقناع». في الفترة نفسها ترجمت مجموعة قصصية لهرمان هيسه عنوانها «أنباء غريبة من كوكب آخر»، تلتها رواية نغوجي واثيونغو «النهر الفاصل». في الواقع كنت أتدرب بوجل في هذا الميدان الذي كلما توغلت فيه اكتشفت المزيد من مشاقه وصعوباته. وعندما أقمت في بريطانيا وأصبحت على تماس مع اللغة الإنكليزية صرت أخافها وأتوجس من معرفتي التي طالما شعرت بضآلتها. في كل مرة أقول لنفسي أحتاج المزيد من التعلم كي أتمكن من هذه اللغة الثرية الهائلة. والحقّ لا أعرف متى يتحقق ذلك! لا أظن أنه سوف يتحقق فلا حدود للمعرفة. اللغة وليست الترجمة هي رافد مهم في تكويني الأدبي، وفرت لي فرصاً لتطوير أدواتي الفنية عبر قراءات لنصوص لا توجد في العربية. معرفة لغة أخرى هي معرفة عالم آخر. 
 
* ينشطر الآن المشهد الثقافي العراقي بذات الثقل بين مثقفي الداخل العراقي وبين من يقطنون في خارجه الجغرافي. كيف للمثقف العراقي أن يقول كلمته في ضوء الحراكات المستعرة داخل العراق رغم المسافة التي تفصله عن فوّهاته العديدة؟ 
- كما تعرف، مع الثورة التكنولوجية الهائلة التي يشهدها العالم لم تعد المسافات تعني شيئا خاصة لمن وسائلهم فكرية. تستطيع في أي مكان من العالم أن تقول رأيك في الحراكات المستعرة في العراق وفي غيره من البلدان. 
لكني أحسب أن الفصل بين مثقفي الداخل والخارج فصل تعسفي، يوهن فكرة توحيد الجهد المعرفي للمساهمة في رؤية بناءة لبلد يمر بمنعطفات سياسية خطيرة في المركز والمحيط. هل الفصل مكاني؟ إذا كان كذلك فهذا لا يعني شيئا أمام النتاج الأدبي أو الفني الذي يستقي مادته من التربة العراقية الغنية بتنوعها ومصادرها. سأعود إلى ما قلته في البداية: المكان فضاء 
قَدَري يصادفنا في لحظة من عمر الزمن.