حين رسم ڤان كوخ الحذاءين الباليين الفاغرين، هل كان يعلم أنه سيشحذ ذاكرة الإنسانية بقصص وحكايا تُكمِلُ أساطير العصور السالفة وخرافاتها؟!، فخرج القط صاحب الجزمة والحذاء ذو السبعة فراسخ وسندريلا التي صارت أميرةً بفضل حذائها المفقود والمرأة العجوز التي عاشت في الحذاء ..
هل كان يعلم ڤان كوخ بأن سارداً عراقياً راحلاً سيكتب نصاً عن حذاء عسكري؛ مستذكراً أيام سَوْقِه الى الجندية في العراق؟
وهل كان يعلم السارد الراحل «محمد علوان جبر» شيئاً يذكّرهُ بحذاء ڤان كوخ؟. الاثنان صنعا أحذية متهرّئة وغادرا، لكن أحذيتهم بقيت إما على الجدار البارد في المتاحف العالمية كحال حذاء ڤان كوخ، أو بين طيّات كتبٍ ما عادت منسية، لأن «محمد علوان جبر» أعطى عمراً مضافاً لحذاءٍ عسكري بال ظلّ في بسطات الميدان ينتظر اليد التي ستقلّبه ... هذه الأحذية إذن ليست للبيع إنما صُمِّمت لكي تبقى متروكة في فضاء الصمت والبرد والعزلة.
لوحة ڤان كوخ أثارت رغبة الكثير من الفنانين والمفكرين لمتابعتها والكتابة عنها مثل «دريدا» و«هايدجر» الذي يقول عن هذه اللوحة إنه «داخل ظلمة الخواء الحميم للحذاء يتجذّر من بعيد تعبُ خطواتِ كدِّ الفلَّاحة وجهدها اليومي وداخل خشونة الحذاء وصلابة حمولته يثبِّتُ بطء حركات الخطى بين الحقول»... إذاً فأحذية ڤان كوخ هي الأخرى لم تأتِ من فراغ إنما جاءت من ركام الصور المقبلة من حضارات قديمة وأساطير الغرب، إذ يرتدي الإله اليوناني الصنادل المُجنَّحة، وكذلك فعل الحذاء بكعب «آخيل» ومصيره المرتبط بذلك المكان.. أما في مصر القديمة فإن الفراعنة طوَّعوا أحذيتهم لملاءمة جميع الأنشطة التي يقومون بها وكان لون الحذاء يشير إلى منزلة مرتديه وكان عبيدهم يحملون صنادل أسيادهم، إذ يعد الصندل أو الحذاء رمزاً للقوة والمرتبة الرفيع.. كما اعتنى اليونانيون القدامى بأقدامهم أشد العناية وصنعوا لها ألواناً من الأحذية التي تميز الأسياد عن العبيد.. وماذا عن التراث والفلكلور العربي والإسلامي؟
سنذهب الآن مباشرة إلى «أبي القاسم الطنبوري» وحذائه المرقّع الذي صار لعنة عليه مما جلب له الويلات والمصائب، بينما في العرفان والتصوُّف نرى «بشر الحافي» يدخل التاريخ حافياً بعد أن ترك الإماء والجواري والغلمان وهو يتجه إلى الزهد والعزلة بكلمتين من الإمام «موسى بن جعفر».. لذلك صار لوَقْع الأقدام الحافية أثر مقدس ابتداءً من أمر الخَلعْ في القرآن: (اخلع نعليك إنك في الوادي المقدس طوى)، وصار الحفاة الفقراء الذين سكنوا هوامش التاريخ متوناً مقدسة في علوم الفقه والتصوف والعرفان.. الحفاة هم القداسة حافيةً، كما يأخذنا فيلم (أطفال السماء) الإيراني وتَشارُك الطفلين في حذاءٍ واحد.. بقي أن نقول إنَّ لمعان وجوه الأسياد والساسة يشبه لمعان احذيتهم تماما.. لذلك ليست أحذية ڤان كوخ أحذيةً مجرَّدة وربما ليست أحذيةً أصلاً؛ إنما هي رمزٌ في فضاء الصمت، ذلك الرمز الذي يكشف غطرسة اولئك الساسة أمام ثورات مقبلة للمهمَّشين والحُفاة والغاضبين.