صناعة التابع

آراء 2020/11/01
...

  ميادة سفر
ما إنْ يولد الفرد حتى يجد منظومة اجتماعية متكاملة أمامه، وسرعان ما يندمج فيها ويلتزم بها، ويصبح جزءاً منها، يدافع عنها، ليصبح في مرحلة معينة شبيهاً بالآلة التي لا عقل لها، وإنما تساق وتقاد من قبل مجموعات اجتماعية، سياسية، أو دينية وهي الأكثر تأثيراً، لا سيما في البلاد العربية التي تتحكم في أغلبها طغمة محددة تنشط في مجال محدد، وتستقطب جمهورها بعد أنْ تكون قد أجرت له عملية غسل للدماغ، حتى لا يرى إلا ما يقدم له، ولا يسمع إلا ما تقوله، ولا يتصرف إلا وفقاً لتوجيهاتها ومشورتها، تلك التي يمكن تسميتها بصناعة التابع.
لا بأس بل من الضروري أنْ يكون لكل مجتمع قيمه الأخلاقية والإنسانية التي يستعين بها ويسير على هديها، لكن إذا ما تحولت إلى أغلالٍ تعيق حركتنا، وتحدد مقاس خطواتنا، وتكبح جماح أفكارنا وأحلامنا، وتفرق بيننا تبعاً للجنس أو الدين أو العرق، عندها لا بدّ من إعادة النظر بها، رفضها والتمرد عليها، كي لا نتحول من مجتمعات بشرية توسم بالعاقلة إلى مجموعة تابعة لديها راعٍ يتحكم بها.
صناعة الأتباع تتقاطع مع العقل الجمعي الذي تحدث عنه عالم الاجتماع إميل دوركايم حين اعتبره «المكون الأساسي لأفكار الناس، والموجه لسلوكياتهم»، والفرد في أي مجتمع يتبع هذا العقل بشكل تلقائي سواء بوعي أو بدون وعي، فهو لا يملك الحرية ليقرر ما إذا كان يريد اتباع العقل الجمعي أم لا، بل هو مجبر على ذلك بالقوة، حيث يسلب قناعاته وآراءه، فتكون النتيجة تجهيلاً تاماً وغياباً للعقل الفردي واستسلاماً كلياً، وهو ما تشتغل عليه الجماعات لنشر أفكارها، وزيادة أعداد المنتمين إليها.
إنَّ السلطات المهيمنة على المجتمع سواء الدينية أو السياسية والاجتماعية والوسائل الإعلامية التابعة لها والتي تتحدث باسمها، في سبيل صناعة الأتباع الذي سيتبعها مغمض العينين والعقل، تلجأ إلى استخدام أساليب متعددة من بينها الخطابات الشعبوية التي تشتغل على الوتر الطائفي والمذهبي والعرقي، ولاستثارة الأفراد أكثر غالباً ما تلجأ إلى تمجيد الماضي، تعيد إحياء شخصيات ورموز تعزز سلطتها، وتوهم الجماهير بوجود أعداء يتربصون بهم، ويحاولون تشويه تاريخهم، فتلتهب مشاعرهم ويصبحون مستعدين للقيام بأي عمل دون وعي، ويغدو الآخر المختلف عنهم في الرأي عدواً يحلّ قتله، معززين بذلك «الخوف الجمعي» الذي قال الفيلسوف برتراند رسل إنه «يحفز غريزة القطيع، وينتج شراسة تجاه أولئك الذين لا يعتبرون 
أعضاء في الجماعة».
لا يمكن لفرد انتزع عقله وفرديته أنْ يفكر بشكل حر، جلّ ما يمكنه القيام به هو اللحاق بالركب حيثما توجه، وهو ما يبقي أي مجتمع متخلفاً، مليئاً بالمشكلات والحروب، متأهباً خائفاً من آخر قد لا يكون موجوداً، ولكي نتحرر من عقلية الجماعة السائدة، لا بدّ من رفض كل الأفكار الجاهزة المعلبة، واستخدام العقل والتفكير بحرية وأفكار قابلة للنقاش والحوار.