ما يحدث في الشرق الأوسط!

آراء 2020/11/01
...

 علي حسن الفواز
بين جغرافيا الوهم والخراب، وسرديات البحث الصعب عن الهويات تبدو "صورة الشرق الأوسط" أكثر استلابا وتمزّقا، واكثر هروبا نحو التاريخ، فرغم أن الصراعات القديمة فقدت ايقاعها، وربما وجودها، إلّا أنها ظلت غائرة في أنساق الحكي والجماعة والخطاب، مثلما أن بروزها العنفي في مراحل متفاوتة حمل معه شحنات قاتلة من ذلك التاريخ، ومن الأدلجة، ومن العنف والتكفير، والتي مسّت ما هو متداول في مفاهيم الدولة والآخر والنظام العالمي والهويات، حيث تعرّضت الى ما يشبه السحق السياسي، والرمزي، وحيث تاهت معها " الهابيتوستات" النمطية، تلك التي وجدت نفسها أمام عوامل ضاعطة للفقد والتعرية والمحو والصراعات والصدمات الحضارية.
مصطلح الشرق الاوسط، بدا وكأنه مصطلح مصطنع، ومُصمم لتأطير مجموعة من التوصيفات التي تخص الصراع، مقابل أنه مصطلح ضدي لمفهومي " الأمة العربية" و" الأمة الاسلامية" وهما أكثر تجذرا واستعمالا، وأكثر تمثيلا للجماعات الديموغرافية والدينية في هذا الشرق الافتراضي، فضلا عن كونه يتضاد مع الأدبيات الأميركية، التي وجدت في توصيفه وتسويقه الجديد، مجالا للقبول بالجغرافيا على حساب التاريخ، أي القبول بـ" اسرائيل" داخل الفضاء العربي والاسلامي.
 
الشرق الأوسط وسقوط النمط
الشرق الأوسط بتوصيفه الاصطلاحي لم يعد صالحا للتداول السياسي النمطي، ولا للتوصيف الانثربولوجي التقليدي، بسبب حجم التغيرات الكبرى التي أصابت منظومته في الجغرافيا السياسية، وفي طبائع الجماعات والعادات والقيم التي تشكّل بنيته الاجتماعية والثقافية، وحتى هويات الدول التي تكوّن اطاره ومساحته" العربية والاسلامية" فهذا المصطلح يتعالق مع طبيعة الاشتباكات السياسية والاقتصادية والهوياتية المعقدة التي تورطت بها، والتي جعلتها أكثر خضوعا الى حسابات الهيمنة والصراع الاميركية، والى مواجهة الصدمات الثقافية والدينية التي عاشت تداعياتها جرّاء البروز الارهابي لمظاهر الجماعات المتطرفة، والتي بررت فعل الهيمنة والتدخل الامريكي والاوروبي والروسي الى الميدان، تحت يافطة مواجهة الارهاب، ولفرض قواعد جديدة على جغرافيا الاقتصاد والسياسة والأمن الدولي، وعلاقة ذلك بتيسير تداولية لرؤية مثيرة للجدول حول مفهوم" الشرق الاوسط الجديد" الذي طرحته كوندليدزا رايس قبل عقود، وعلاقة ذلك بما يُطرح اليوم من أفكار وتصورات لما يُسمى ب" صفقة القرن" والتي راجت بشكلٍ فاضح مع حكم الرئيس الاميركي الأكثر شعبوية رونالد ترامب، وكلا المفهومين يعكسان في الجوهر " موت النمط القديم" وبروز المساحة المفتوحة، لمتغيرات جديدة، تخصّ دولا وجماعات، مثلما تخصّ ادارة أكثر برغماتية للصراع والثروة والسياسة والأمن والمصالح وللعلاقات بين تلك الدول، وعلى أساس القبول بالأمر الواقع، وكلّ ذلك يربط جغرافيا الشرق الاوسط بالسياسة الاميركية الجديدة القائمة على أساس فرضية الهيمنة 
والاحتواء.
 
حروب الخليج وتفكيك الثروة
منطقة الخليج من أكثر الجغرافيات التي تعرّضت للخرق التوصيفي، إذ تحولت الى فضاء لاستعراض القوة ولترويج الخطاب الامريكي والغربي من جهة، ولتسويغ اسباب القبول بفكرة الشرق الاوسط الجديد، وبصفقة القرن، بوصفهما اجراءات قائمة على اساس فرضية السيطرة، وتغليب المصالح وضبط ايقاع السياسة والثروة والجغرافيا والأمن الدولي، وهي حسابات وجدت في المتغيرات السياسية العالمية تبريرا ودافعا، على مستوى التعاطي مع التاريخ وصراعاته، أو مع القضايا الاشكالية، وابرزها ما يتعلّق بالموقف من القضية الفلسطينية، أو العلاقة مع ايران، ومع جبهات المقاومة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، حتى بدا الأمر وكأنه اعادة انتاج لخنادق قديمة للحرب الباردة، لكن بآلية جديدة تحكمها المصالح والقوة العسكرية وليس الايديولوجيا، وهذا ما يجعل المنطقة محفوفة بأخطار شتى، حيث الحروب المحتملة، والصراعات الأهلية والأزمات الاقتصادية والسياسية، وحيث فرضية السيطرة الاميركية على المياه الدافئة، والثروة والممرات المائية الستراتيجية.
التحوّل الخليجي هو مفتاح التحوّل المفاهيمي للشرق الاوسط الجديد، لأنه يعني تحولا في مسار الثروة، وفي جغرافيا العسكرة التي بدأت تتضخم في المنطقة، والتي باتت تضغط كثيرا على دول أكبر حجما مثل مصر والسودان، على مستوى زيارة مساحة الفقر والعجز الاقتصادي، وعلى مستوى تحويل التطبيع الى ستراتيجية سياسية وجغرافية واقتصادية ضاغطة، والذي يعني القبول بالتغيرات الجيوسياسية التي ستشهدها المنطقة.
كما أن تضخم ظاهرة الارهاب التكفيري يعد مظهرا خطيرا في سياق تحولات الشرق الأوسط، حيث ضعف الحكومات، وتحويل الارهاب الى عنصر تهديد دائم، وحيث ظهور الغرب واميركا بوصفهما حماة افتراضيين من رعب الادلجات والأصوليات، لاسيما في دول مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب وسوريا وليبيا واليمن، لأنها دول تعاني من تهديدات لوجستية عميقة، وبعضها يعاني من صراعات اهلية معقدة.
تعويم مفهوم الشرق الأوسط سيكون مدعاة للحديث عن شرق آخر، شرق تحكمه النيوليبرالية، والسياسات الاميركية، مقابل الانخراط في " لعبة السلام" مع اسرائيل، والذي يعني في جوهره انهاء اية مظاهر للمقاومة الاسلامية أو اليسارية ضد اسرائيل العنصرية، وضد الهيمنة الرأسمالية، وضد سياسات التغيير الديمغرافي في المنطقة، لاسيما في لبنان والاردن وسوريا، والذي تعمل الولايات المتحدة على فرضه كأمر واقع، بالتنسيق من بعض الدول الكبرى، لاسيما فرنسا وعبر بوابات ذات نزعات كولنيالية، وحسابات جيوسياسية كما حدث مؤخرا بعد انفجار بيروت الكبير.
 
الشرق الأوسط والحروب المفتوحة
تفكيك مفهوم الشرق الاوسط لصالح تداولية سياسية معروفة سيكون رهينا بصناعة عناصر تهديد دائمة أو مؤقتة، وهذه العناصر ترتبط بتسويق الحروب الاقليمية، أو الحروب الاهلية، أو بالحرب مع الجماعات المتطرفة، وكذلك ترتبط بفرض الحصارات والعقوبات التي تمارسها الولايات المتحدة على الدول والأشخاص، ولأهداف معروفة بنواياها وسياساتها، وأجنداتها ذات التوجهات الاخضاعية، وبما يدعو الى البحث عن رهانات جديدة، منها رهان التطبيع، ورهان الانفتاح على الاسواق الاميركية، ورهان التخلص من راديكالية المقاومة، وعدم الانخراط في تحالفات سياسية أو اقتصادية مع روسيا والصين.
فرضية السيطرة هي المحور الذي يدور حوله التوصيف الجديد للشرق الأوسط، والذي ينطلق من اهداف متعددة، اولا: تمييع الطابع القومي والديني لدول جغرافيا هذا الشرق. ثانيا: اخضاع اطر وسياسات الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في هذه الدول الى سياسات تحددها النيوليبرالية الاميركية، وبالتالي تحويل هذه الدولة الى مصدر قوة لمواجهة التغول الاقتصادي والسياسي لدول كبرى مثل الصين وروسيا.
ثالثا: انهاء الصراع التاريخي مع اسرائيل، والخضوع الى سياسات توافقية تقوم على اساس القبول باحتلال الارض العربية، وبالمهاجر بلدان بديلة للفلسطينيين، مقابل تأطير ذلك بفرضية السلام مقابل السلام. رابعا: السيطرة الكاملة على مصادر الثروة النفطية والغاز، وكذلك السيطرة على ممراتها الستراتيجية، ومنع مشاركة دول المنطقة في تحالفات ومشاريع اقتصادية كبرى ومنها طريق الحرير الصيني.
موت الشعب ونهوض دول الاقليات والجماعات، وهي نماذج من السهولة السيطرة عليها، لانها ستكون مشغولة بصناعة الديكاتور، والحروب الاثنية، وسط مظاهر الفقر والتخلف والاضطرابات
 والفتن.