تعضّلات المحليَّة في «نادي المجانين»

ثقافة 2020/11/02
...

   علي سعدون 
 
 
في الكتابة عن القصة القصيرة في العراق، لا بد لنا ان ننشغل بموضوعة مضمونها أسوة باهتمامنا بالقضية الفنية فيها، ذلك ان القضية في نهاية المطاف، قضية المعنى النادر والسرد الممتع سواء كان العمل فنتازيا ام كان واقعيا، على الرغم من ان المعقول والغرائبي قد تداخل على نحو غريب في معظم ما تنتجه القصة القصيرة في العراق. أقول على هذين المستويين ينبغي على النقد أن يصر على الاهتمام بالمعنى بطريقة توازي اهتمامه بالقضية الفنية الشائكة التي تعاني من أمراض لاحصر لها في ذلك الفن الجميل.
إذ يحدث أن ترى بعين الادب لا بعين سواه الى العالم بوصفه مادة موضوعية قادرة على صنع الحياة بشقيها المتخيل او غير المتخيل، واحالة تمثيلات الواقع الى فنٍ من فنون الادب، وهو ما يعجز عنه علم النفس وما تعجز عن تصويره العدسات الثابتة والمتحركة. الادب يحفر في جوانيات النفس البشرية وضميرها وصولا الى معرفة قدرتها على صنع التاريخ الشخصي. بتقديري البسيط هذه هي المساحة العظيمة التي يتيحها الأدب للقارئ، سواء أكان هذا القارئ مهتما بمتعة النص أم برسالته الاخلاقية والثقافية، شفرات النص ومراميه التي يجتهد الكاتب في بثها امام
 المتلقي. 
عمل حسن السلمان على قراءة الظواهر في الوعي الانساني بمعظم قصصه في كتابه «نادي المجانين»، وكأنه يعمد الى ممارسة فينومينولوجية للمعرفة الانسانية متوخياً الاجراءات الكونية في الاداء، وهذه بتقديري الشخصي ممارسة تعارض الاداء الذي يلفت انتباهنا في معظم ما ينتج من سرد في القصة والرواية. لم يسجل حسن السلمان لواقعةٍ بعينها ولم يتمثل التاريخ ولا الهموم المحلية التي تعبث بالضمير الجمعي لـ «الأمة» إلا بصورة هامشية محدودة جدا، بل ولم يتوخ اهتماماتها المصيرية، اي انه كان يخضع لاشتراطات فنية في كتابة القصة اكثر من اهتمامه بالجانب الموضوعي. اداء فني عالٍ بطريقة متقنة وتنم عن خبرة ووعي بمجريات السرد ومستوياته. لكنه سيصطدم بتعضلات موضوعية تجعله يغرّد خارج السرب، بل خارج التاريخ الشخصي الذي ننتظر فيه – نحن القراء – معنى لما يحدث في الحياة من خلال رؤية الادب. الرؤية الفنية الممتازة، وطريقة السرد الساحر، لا تكفيان لانتاج خطاب قصصي ناجح إذا لم يكن مشفوعا بموضوعة تتفاعل وتتصاعد فتخضب ذلك الادب وتبرر له وجوده وأداءه. لا ان يجري ذلك الفن وكأنه منظومة مغلقة على نفسها فيدير ظهره للمعنى.  
بوسعنا القول إن هذه المجموعة اذا ما تُرجمت الى أية لغة من لغات العالم ستأخذ حيّزها الانساني وتنتج فعلها بعيداً عن التاريخ أو النسق الاجتماعي الذي صدرت عنه. خطاب حسن السلمان في «نادي المجانين» يمكننا نعته بأنه خارج النسق التاريخي للعراق وارهاصاته السياسية والاجتماعية المعاصرة. نعم، إنه خطاب كوني يدخل ضمن بوتقة الترف الفكري لإنتاج السرد الممتع الذي لا يخدش مزاج أحد ولا يثير سوى الرغبة الانسانية العامة لتقبّل الادب والانبهار به وهو ينهمر من مخيلة فذة. لكن صفة التسجيل في مقصديات التاريخ، ستكون غائبة وغير مرئية الى حد ضياع الهوية وضياع الشفرات التي تلامس ضمير وعقل القارئ المحلي قبل ان تتحرك وتنطلق الى العقل الآخر.
إنّ كل المجموعات القصصية التي تصدر عن كتّاب القصة في العراق، ستأخذ توصيفاً نقدياً في نهاية المطاف. توصيفٌ يسبر أغوار المجموعة من عنوانها الى جلدتها الأخيرة، ومن ثم سيتصدّر ذلك القول خلاصة التقييم الذي يوسم اشتغالها. فما الذي سيتيحه توصيف قصص السلمان في نادي المجانين؟، وسأجيب جازما إنها ستشكل بمجملها لحظة انفعال بحدث عابر يقوم السلمان بتهويله وايصاله الى مستوى من مستويات الحدث الذي يصلح لكتابة القصة القصيرة. كما يمكننا وصفه ببزوغ خيالات تشير الى بطل تعم روحه حالة طويلة من التهويم.
نعم.. يمكننا ان نتفق مع الناقد صادق ناصر الصكر في تقديمه النادر لهذه المجموعة في غلافها الاخير، من انها، أي – مجموعة نادي المجانين- بلا أب في امتدادها للقص العراقي، وانها تجربة فريدة. تكنيكها وتمازج الشعري فيها بالسردي حد الذوبان بعد هضم الاخير للأول. نعم نتفق كثيرا على ذلك.. مجموعة غاية في الامتاع ولغتها لا تنتمي للقص العراقي الذي نعرفه، وتتمتع بحساسية مغايرة لما عرفناه عن حساسيات كتابة القصة في العراق. هي كل ذلك واكثر. لكننا سنكون في منطقة التعارض مع مقصديات ونتائج ذلك السرد المبهر اذا ما ذهبنا الى اهمية الموضوعات وقدرتها على تمثيل الحياة في السرد. ذلك أنها حتى وإنْ لامست الواقع في بعضٍ من مفاصلها فإنها كانت قد ذهبت بعيدا الى حيث المهجور والمنطفئ من الذاكرة العراقية. 
قد يصح الى حد كبير ذهاب كتّاب القصيدة الشعرية نحو اكوام المهمل في الحياة، إلا ان كتّاب السرد – في القصة القصيرة على وجه التحديد - سيتعبون كثيرا في ذلك السعي غير المنتج وغير المنفعل بالحياة. فسرديات قصص المجموعة من قبيل: الاسيوية والزنجي، اللص ونجمة الصباح، نافذة تطل على جدار، ابتسامة في البرية، وغيرها من النصوص، كانت قد حلّقت بعيداً في تهويماتها، حيث السوسيولوجيا التي لاتخص سوى الذاكرة البعيدة، غير المعاشة إلّا بطريقة محدودة لم تصل حدَّ الظاهرة التي تستحق ان ننفعل معها بوصفها محنة وطن وتطلعات الى ماضٍ ومستقبلٍ عراقي بامتياز. هذه هي المعضلة الرئيسة في «نادي المجانين».، تكنيك عالٍ وسرد فذ يقود الى مناخ كوني لا علاقة له بالمحلية إلا بالنزر
 اليسير. 
حسن السلمان قاص مميز، تجاوز أهم قضية تعاني منها القصة العراقية وهي غياب اللغة الرشيقة والترهلات وفائض المعنى، وقد بدّل كل ذلك بسردٍ مبهر. هذه المشكلات لن تصادفها في اداء السلمان، على الرغم من وقوعه في براثن التغريب والكونية غير المحببة، إذا ما تذكرنا اننا ننشغل اليوم بندوب سوسيوثقافية يتصاعد وجعها في الشارع والازقة والأرصفة ويغيب ثقلها عند كتّاب السرد الذين يغردون في اسراب تخيلاتهم الشخصية ويدورون في فلكٍ بعيد خارج جدل الهوية واشكالات التديّن وتعضّلات الاجتماع والسياسة..