على باب النبي (ص) !

آراء 2020/11/03
...

جواد علي كسار
 
بعد فتح مكة المكرمة في شهر رمضان سنة 8هـ خضع عرب الجزيرة كلهم تقريباً إلى الإسلام، خلا قبيلة هوازن وثقيف، التي حشّدَت قواها العسكريَّة في مواجهة مع النبي، أرادتها أنْ تكون شاملة واستئصالية، وقد أمّروا عليهم مالك بن عوف النضري، الذي كان كبير الثقة بنفسه في أنْ يحرزَ النصرَ ويفوزَ بالمعركة ضد النبي، وهو يقول: "إنَّ محمداً لم يلقَ أحداً يُحسن الحرب" مُعرضاً بقريش!
من جهتهم احتشد المسلمون في جيشٍ هو الأكبر بلغ يومها اثني عشر ألف رجل، واحتدمت المعركة بينهما في وادي "أوطاس" وقد مالت الكفة في البدء إلى هوازن وثقيف، قبل أنْ تنقلبَ إلى هزيمة شاملة، كان من نتائجها غنائم كبيرة انحازت إلى المسلمين.
بادر النبي إلى توزيع الغنائم في منطقة "الجعرانة" قرب مكة قبل أنْ يعودَ إلى مقرّه في المدينة، وقد قامت سياسته في التوزيع على تقديم المؤلفة قلوبهم من قريش وسائر العرب، تسكيناً لنفوسهم وجذباً لهم إلى الدين الجديد الذي دخلوه تواً، في حين لم يأتِ شيء من هذه الغنائم إلى الأنصار، إلا الشيء اليسير، وقد أوكلهم إلى إسلامهم العتيد وإيمانهم بهذا الدين.على سبيل المثال تذكر مصادر السيرة، أنَّ النبي أعطى أبا سفيان ومعاوية ابنه وحكيم بن حزام والنضير بن الحارث وجبير بن مطعم، كلّ واحد منهم مئة بعير، وهي غنيمة كبيرة جداً، تشبه في قيمتها المادية والرمزية اليوم، مبلغ المليون دولار وأكثر!
ازاء هذا التفاوت في العطاء غضب قومٌ من الأنصار، وظهر منهم كلامٌ قبيح، حتى قال قائلهم معرضاً بالنبي: لقي الرجل أهله وبني عمّه ونحنُ أصحاب كلّ كريهة!
طالب النبي إعداد اجتماع طارئ، يقتصرعلى الأنصار وحدهم لا يقعد معهم غيرهم، ثمّ دخل عليهم شبه المغضب، حتى جلس وسطهم، وراح صلى الله عليه وآله يقول: ألم آتكم وأنتم على شفا حفرة من النار، فأنقذكم الله منها بي؟ ألم آتكم وأنتم أعداء فألّف الله بين قلوبِكم بي؟ ألم آتِكم وأنتم قليل فكثّركم الله بي؟ ثم قال لهم: ألا تجيبوني؟ فقالوا: بمَ نُجيبك يا رسول الله، لك المنّ والفضل والطول، فقال لهم وكأنه يقرأ خبيئة أنفِسِ بعضِهم: بلى لو شئتم قلتم: جئتنا طريداً مُكذّباً فآويناك وصدّقناك، وجئتنا خائفاً فآمنّاك!
بهذه الكلمات وأمثالها امتلأ المكان بشذى رقيق عَطِر، والنبي ينثُر على الحاضرين من هباته بلا حدود. كأنه أخرج بهذه المعالجةِ الحاذقةِ ما في حفيرة بعض النفوس، بعد أنْ لامس الدّمّلة الحساسة، وأفرغ ما فيها. لذلك تذكر مصادر السيرةِ أنَّ المكان ضجّ بالبكاء، فارتفعت الأصوات وقام شيوخ الأنصار، فقبلوا يدي النبي ورجليه وركبتيه، ثم قالوا: رضينا عن الله ورسوله، وهذه أموالنا أيضاً بين يديك، فأقسمها بين قومك إنْ شئت!
فقال لهم موضحاً فلسفته في هذا العطاء: يا معشرالأنصار، أوجدتم في أنُفسِكم إذ قسّمتُ مالاً أتألّف به قوماً ووكلتكم إلى إيمانكم؟ أما ترضون أنْ يرجع غيركم بالشاة والنِعَم، ورجعتم أنتم ورسول الله في سهمِكم؟ أجل، رسول الله هبة لنا من فوق كأغلى ما تكون الهبات!