علي المرهج
تنبني"الدوغمائية" عند الفيلسوف من دون قصد، تنبني طبقاً لثقافته وبنائه الحضاري وثقافة عصره والصراع السياسي في هذا العصر، فضلاً عن طبيعته الفردية، سواء أكانت سايكولوجية أم بايولوجية. وكل هذه "الدوجما" التي في الفلسفة تنتهي بمجرد النظر لتعدد الفلسفات وقبول هذا التعدد والتنوع داخل المنظومات الفلسفية المختلفة، بل داخل المنظومة الفلسفية الواحدة، وأحيانا الفيلسوف نفسه يُغيَر من توجهاته الفكرية، ولا يُشكل هذا في عقيدة من أُدرج الفيلسوف على أنه ضمن اتجاههم وأنه قد خرج عن الجماعة، أو ارتكب خطيئة، أو خان العقيدة، كما هو الحال في الأيديولوجيا، فوجودية سارتر هي غير وجودية هايدغر، وبراجماتية بيرس هي غير براجماتية جيمس، ولكن الاختلاف بينهما لا يعني تخوين أحدهما للآخر، ولا يمكن أن يصف أحدهما الآخر بأنه "مُتآمر" كما هو الحال بين الأيديولوجيين والعقائديين "الدوغمائيين".
واحدة من أهم مشكلات الفكر العراقي أنه يعاني من ضغط الأيديولوجيا، الأيديولوجيا السياسية من جهة، والأيديولوجيا الدينية من جهة أخرى، وهنا نحن نُفرَق بين الدين بوصفه نزعة إنسانية جاءت لهداية البشر وبين توظيف الدين لخدمة الأيديولوجيا السياسية، سواء التي في السلطة أو التي خارجها، هذا الفكر الذي نسميه الأيديولوجيا الدينية يسعى إلى جعل الدين موقفا دنيوياً يتدخل في كل التفاصيل اليومية للفرد ويقرر صلاحية كل إجراء أو
تطور.
لم تكن مهمة المُفكر العراقي مهمة نقدية مُعتمدةً على التحليل والتركيب والكشف والتعرية التي هي أصل مهمة الفيلسوف، ولم تكن مهمته إنتاج النظرية، بل كانت مهمته الدفاع عن مجموعة من مسلمات وشعارات "الأحزاب القائدة".
أما عن إمكانية تحقيق النهضة وتجاوز عُقدة التخلف، فإنها مما يصعب تحقيقه في ظل غياب التفكير الفلسفي وفاعلية وحضور الولاء الأيديولوجي والعقائدي "المذهبي" أو "الطائفي"، ببعديه السلفيين "السُني" و "الشيعي".
إنَّ السعي إلى تحقيق النهضة المرجوة لا يتم إلَا بالتشكيك بمعارفنا السابقة، ذلك المنهج الذي اختطه ديكارت لا لرفض المعارف السابقة، وإنما لفحص مدى قدرة هذه الأفكار على البقاء أو الصمود بعبارة "كارل بوبر"، والتحقق من صلاحيتها في ضوء تحولات العصر.
هذا العمل لا يقوم به إلا الفيلسوف الذي ينفتح على جميع الأفكار، متجاوزاً عُقدة الأيديولوجيا والدين والتمذهب ودوغمائية المعرفة، لتنفتح بأفق رحب على التعددية الفكرية والثقافية والدينية.
إنَّ مهمة الفلاسفة كما يقول علي حرب "إنتاج أفكار خلاقة ومهمة، تمتاز ببعدها عن الخصوصية الثقافية، وهذا ما فعله الفلاسفة في العصر الكلاسيكي العربي، ذلك أن المفكر العربي في تلك الفترة لم يفكر تحت تأثير وعيه لهويته الجمعية، كما تشهد على ذلك بعض الأعمال الفكرية البارزة، والتي لا تشير غالباً إلى هوية عرقية أو دينية أو جغرافية، كالمدينة الفاضلة للفارابي، أو الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وهذا هو شأن الأعمال الفكرية الكبيرة، كما هو الحال في كتاب ديكارت "مقال في المنهج" الذي لم يعد شأناً فرنسياً، بل أصبح مُلكاً لكل من يعنيه أمر المنهج، وكذلك الحال مع "نقد العقل المحض" لكانط، أو "الوجود والزمان" لهيدكر، أو "حفريات المعرفة" لفوكو، وكلها عناوين لا تفقد خصوصيتها الوطنية والقومية أو الثقافية، ولكنها في الوقت نفسه خطت لوجودها الإنساني تشكيلاته الأبستيمولوجية، كونها تُشي بصيرورة المفكر الحر الذي يعي مُشكلات بني جنسه الخاصة والعامة، وهو ذات الأمر الذي جعل أعمال هؤلاء الكبار من المفكرين والفلاسفة توضع في رفوف المعرفة الحُرة التي لا يُمكن تصنيفها على وفق تحولات الزمان والمكان، أو الجغرافية والتاريخ.